تعاطي المخدرات لم تقف أضرارها عند سلامة عقل الإنسان، وصحته، أو ضياع ماله، بل هناك ما هو أشد وأنكى وهو استهانة بعض المتعاطين بأعراضهم ومحارمهم وضياع نخوتهم، وهو ما لم يحدث في التاريخ العربي من قبل. أمام مثل هذا البركان العنيف، وأمام أربابه الذين انعدمت إنسانيتهم يحتاج المجتمع - أجهزة وأفراداً - إلى اتخاذ تدابير أكثر فعالية، وتكوين حائط صد منيع بحجم هذا الطوفان الذي بدأ في الزحف بقوة، وأخذ في اجتثاث صغارنا قبل كبارنا، وهو الأمر الذي يلحظه حتى الشخص العادي، إذ بدأ واضحا انتشار هذه السموم القاتلة بين المراهقين ومن دونهم، ساعدهم على ذلك رخص ثمنها مقارنة بذي قبل، وهو رخص دفع إليه كثرة المعروض منها، أو قد يكون ذلك بقصد إيقاع أكبر عدد من هذه الفئة التي تمثل مستقبل مجتمعنا!! من يلحظ كثرة انتشارها بين الصغار قبل الكبار لابد أن تتسابق أسئلة كثيرة إلى مخيلته، بحثا عن حقيقة هذا الأمر: هل تدنى أداء بعض الأجهزة المختصة؛ فعجزت عن ملاحقة من استهدفوا أبناءنا ومجتمعنا بسمومهم المدمرة؟ أم أن شبكات التهريب والترويج بخططها واستراتيجياتها أكبر من استعداد هذه الأجهزة؟ ولا ينسى المتسائل أن يقلب عينيه وذاكرته باحثا عن دور المسجد والمدرسة والبيت في مواجهة هذه الكارثة الحقيقية، وما سر هذه الهزيمة غير المعلنة حتى كدنا نترك الميدان لهؤلاء القتلة يدمرون مجتمعنا كيف شاءوا، وجاءت مواجهتنا أقل بكثير من تدفق سيل المخدرات العرم؟ لمعرفة كثير مما يدور خلف كواليس هذه العصابات التقينا مع بعض المتعاطين والمروجين الذين تابوا قبل أن تصل إليهم الأجهزة الأمنية، وعندما تحدثوا كان هدفهم التوعية والتحذير من خطورة هذه الآفة. والدي كان السبب التقينا في البداية أحد المتعاطين سابقا، وقال: تعاطيت أكثر من نوع من المخدرات، وكنت أشعر بنشوة وطاقة وقتية ثم أنتكس فيداهمني الحزن، وأشعر بتأنيب الضمير، خاصة في الفترة الأولى، حتى أصبت بمرض الاكتئاب الذي لا تزال بقاياه تراوحني حتى هذه اللحظة، وكثيرا ما أشعر أن الدنيا بلا قيمة، ومرات ومرات كنت أفكر في الانتحار في السنوات السابقة، لولا أن رحمني الله فعرفت طريق التوبة. وعن بدايته يقول: كان والدي يدللني وكنت أفعل ما أشاء، لم أجد شيئا يصعب تحقيقه مما أردته، كنت أغيب عن المدرسة متى شئت، وآتي للمنزل متأخرا دون حساب؛ لأن والدي كان مشغولا مع زملائه في استراحتهم الليلية، وأمي سلبية لا تسألني أين كنت ولا من أين أتيت؟، وكان والدي يشعر أن النقود التي كان يعطيني إياها هي كل الأبوة، وهي كل دوره في الحياة تجاه أبنائه، ولا يغضب مني إلا إذا رسبت كي لا يحرجه ذلك أمام أصدقائه وأقربائنا، وأمام الفراغ الطويل الذي كنت أعاني منه، ومللي من روتين الحياة وكون كل ما أريده مهيأ لي بدأت علامات التضجر واضحة أمام زملائي، ثم جهرت بالشكوى، فاستغل أحد رفاقي هذه الفرصة، وعرفني على آخر زيّن لي الولوج إلى عالم المخدرات، وقد ترددت في البداية، ولكن من أهم ما أغروني به هو أنها سبيل للنجاح في الدراسة ومصدر طاقة وعون على مواجهة أزمة الاختبارات التي كانت أيامها بالنسبة لي أياما سوداء، لم أفكر كثيرا، خاصة وأنني كنت أراها مغامرة تقتل الملل الذي كان يحاصرني. ويضيف: بدأت التعاطي، وكان المروجون وأعوانهم يتسابقون على إرضائي وإغرائي معا؛ لأنني كنت مصدر غنى لهم، فكل مبلغ يطلبونه يوضع بين أيديهم!! ثم يصمت فترة والدموع تحاصر عينيه ويواصل: أدمنت، ولم أعد أستغني لحظة واحدة عن هذه الآفات المدمرة، وعندما علم والدي بي كان همه أن يتم التكتم على أمري كي لا أفضحه- كما يقول- إلى أن هيأ الله لي أحد الأقارب فتولى موضوعي، وسافر بي للعلاج، ثم وجهني إلى رفقة صالحة، وذهب كثير من آثار المخدرات الجسدية لكن آثارها المعنوية والنفسية لا يزال يحاصرني كثير منها، ويواصل: الآن أنا أموت كل يوم مرات عندما أرى رفاقي الذين كانوا أقل مني إمكانيات وأسوأ ظروفا يحققون آمالهم، بينما أرى نفسي قطعة من أثاث منزلنا الفاخر فحسب!! الشلة سبب الضياع ويرى متعاط ومروج سابق أن أخطر ما يمر به المراهق هي رفاقه في هذا السن، وهم من يطلق عليهم "الشلة" لأن العلاقة بينهم- غالبا- تكون وثيقة، وتوجيهاتهم مسموعة، ومن النادر أن تجد شخصا بلغ مرحلة متقدمة من العمر يكون ضحية للمخدرات، إذا لم يبدأها شابا، أو مراهقا، ويؤكد أن علاقته في المخدرات بدأت عندما كان في المرحلة المتوسطة وكانت هناك شلة في المدرسة يروجون لما يسمعونه من حولهم في المجتمع عن المخدرات، ويضيف أنا تعلمت المخدرات من زملاء في المدرسة، ويضيف: لم أكتف بالتعاطي فقد كنت أروج الحبوب المخدرة والمنشطة بين زملائي في المدرسة، وكنا نتعاطاها لأن الوهم كان يسيطر علينا، ويوحي لنا أن لها تأثيرا في تحسين مستوانا الدراسي، وعلى الرغم من أن النتائج كانت عكسية تماما، إلا أننا لا نريد أن نصدق، وكانت الشلة تلتقي خارج أسوار المدرسة لنفس الغاية، ومع مرور الوقت أصبح الأمر يكبر وتخرجنا من الثانوية، وتطورت أساليب الترويج عندنا ولعب الذكاء غير الموجه دوره، وكان من أخطر ما يدعم توجه تجار السموم تلك الألقاب المشجعة التي تدس بيننا فننتشي لها دون أن ندرك ما وراءها، حيث يسمى المروج الذي لا تستطيع الجهات الأمنية القبض عليه (الذئب) نظرا لجسارته وبراعته في المراوغة. أساليب مختلفة للترويج وعن بعض الأساليب التي كانوا يمتهنونها لأداء مهامهم يقول: كنت أبيع المخدرات، مقدَّما، على عدة أشخاص وكان يدفعون مبلغا معينا من المال إلى أن أجمع مبلغا كبيرا، وأطلب من المروج الذي يملك تلك الكميات أن يحضرها وأحصل على أرباح خيالية، ومع مرور الوقت استطعت أن أنال بما يعرف في أوساط مجتمع المروجين والمتعاطين "رأس" وهي تعني بأن لي علاقة مباشرة بالمهربين في الداخل والخارج. ويواصل: المهرب عادة لا يعرف أكثر من شخصين فقط، وذلك لدواعي أمنه وسلامة تسليم واستلام البضاعة، وهناك ما يعرف ب "اللوبي" وهو تجمع بعض الأشخاص على ترويج نوع معين من المخدرات مثل (الحبوب، الحشيش، وغيرها) حيث يكونون شبكة محكمة، ولكن في الظاهر يبدو لعامة الناس أن هؤلاء الأشخاص لا تربطهم أي علاقة بعضهم ببعض، أما في الحقيقة فهي منظمة تنظيما دقيقا يصعب اختراقه في كثير من الأحيان، ومجرد الشعور بالاختراق يجعل تلك المنظمة تعيد ترتيب صفوفها من جديد. ويكمل حديثه عن هذه التنظيمات فيقول: هناك لقب خاص يدور بينهم يعرف ب "المشموس" وهو مأخوذ من البضاعة التي تتعرض للشمس، فتفسد صلاحيتها، وهذا يطلق على من أصبح مكشوفا لدى الجهات الأمنية، وهنا يحكم عليه بالخروج منهم، ولكن بطريقة مدبرة. التعدي على المحارم! ويتحدث متعاط ومروج آخر -تائب- بأسى عما كان قد رآه أو سمع به من رخص الإنسان في عالم المخدرات الذي يخلو من الإنسانية والنخوة والقيم والرحمة ويتصف بالجشع والأنانية والعدوانية والتوحش، يقول: من الذكريات التي لا تجعلني أنام الليل إلا قليلا حتى هذه الساعة امتهان الأعراض في سبيل نيل نشوة المخدرات البشعة، فما سمعته لا يكاد يصدق في مجتمع كمجتمعنا الذي عرف بقيمه ومحافظته، ولكن سطوة المخدرات فوق كل القيم والتصورات، ويضيف: العلاقات النسائية المشبوهة ديدن كثير من هؤلاء المروجين أو المتعاطين، فكثير منهم ينسق لعلاقة تربطه بفتاة ويغلف ظاهر هذه العلاقة بالحب أما باطنها فتخطيط بشع، حيث يجعلها تستخدم هذه المخدرات ثم يبتزها كما يريد، وقد تكون بداية تعاطيها عن طريق الغش، وبعد ذلك يمهد لها عن طريق الإغراء بما تصنعه هذه المخدرات من نشوة ونتائج إيجابية، ومع مرور الوقت تصبح لعبة وأداة يصل من خلالها إلى أكبر عدد من الفتيات، وبسبب الخصوصية الاجتماعية للمجتمع السعودي تستطيع الفتاة الترويج أكثر من الرجال، وهذا واقع لا يعرفه إلا من عاشه، وقد شاهدته بأم عيني، ومن الوقائع التي لا أزال أذكرها أن رجلا ابتز شابة بحبتي كبتاغون، ثم بعد ذلك كانت هي التي تتصل به من أجل الحصول على نفس النوع الذي رأته مغايرا لغيره، ومثل هذه الفتاة أعدت نفسها لهذا المروج كما يريد هو وأصحابه، بل بعضهن يجلبن كثيرا من زميلاتهن إلى أن يوقعنهن في شباك المتعاطين والمروجين ثم يبدأ مسلسل الضياع والمؤامرات والرخص الإنساني. ويؤكد أن هذا العالم يموج بأنواع القذارة والهوان، حيث يقدم بعض المدمنين عرضه ثمنا للحصول على أقل جرعة مخدرة، وهو لا يشعر لحظتها بأي مشاعر إنسانية؛ لأن التعاطي وصل به إلى أدنى الدرجات، وهذا ما جعل هذه الوحوش تنتهك شرفه دون وخزة ضمير واحدة توقظهم من سباتهم، وتجعلهم يفكرون في جريمتهم الكبيرة، ويضيف: الأمر يتجاوز ذلك إذ لا يكتفون بهذا الحد من (الحيوانية). ويؤكد أن شراك هؤلاء المروجين وأعوانهم لا تقف عند استدراج النساء ثم استغلالهن تحت سطوة المخدرات، فلهم أساليب (وقحة) مع صغار السن، حيث يستدرجون المراهقين والصغار بطرق متعددة بدءا من وهم النجاح وانتهاء بطريق المخادعة والعبث بشرف هؤلاء الصغار ثم تهديدهم بنشر صورهم في وضع مخل، أو إذاعة مكالمات مسجلة تسيء لهذا الصغير أمام أهله ومجتمعه. ويؤكد في حديثه عن هذا العالم الغريب في أفعاله وتخطيطه أنهم يسيرون وفق تنظيم مدروس فكما أن هناك صيدليات مناوبة؛ ففي عالم المروجين ما يشبه المناوبة الليلية، فلكل ليلة مروج محدد ينفذ فيها كميات البيع المطلوبة، فيما يقوم الآخرون بإشغال الجهات الأمنية وإيهامهم في أن لديهم شيئا، حتى ينفذ "المناوب" خطته بنجاح، وأمر آخر غريب فعندما لا يجد المتعاطي صنفا عند مروج يحوله إلى آخر، كما تعارف المروجون أن البيع في وقت متأخر من الليل خطر جدا، لصعوبة فراره من أيدي الأمن، حيث إن الهدوء يشكل قلقا لهم وانكشافا، لذلك يستغلون الضوضاء؛ إذ يضيع-لحظتها- المروج بين زحام الناس!! بلادنا مستهدفة وتحدث الأستاذ عبد الإله الشريف مساعد المدير العام للشؤون الوقائية بمكافحة المخدرات عن انتشار المخدرات بين المراهقين في الفترة الأخيرة فقال: يعود ذلك إلى ضعف الوازع الديني والرفقة السيئة، والفضائيات والإعلام المنافي لديننا وقيمنا، وكذلك سوء استخدام الإنترنت والتفكك الأسري، وعدم وجود القدوة الجيدة، فهذه أهم أسباب تعاطي الشباب والمراهقين على الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة في مجال مكافحة المخدرات، مع إيماننا بوجود منظمات وعصابات خارجية تستهدف المملكة لهدفين: أولهما الكسب المادي والثراء الفاحش، والثاني تدمير عقول الشباب، ولذلك يجب أن نقف وقفة واحدة لهذه الهجمة الشرسة بكل ما أوتينا من قوة أمنيا وميدانيا، ثم تربويا واجتماعيا وإعلاميا، وهذه الجوانب يجب أن تتضافر الجهود بعضها مع بعض، حتى مسألة الوقوف مع المتعاطين والمتوقفين عن تعاطي المخدرات يجب أن تشترك فيها وزارة الشؤون الاجتماعية أيضا، وأن تعمل من أجل مد يد العون والمساعدة مع الجهات المعنية بكل جدية.