الحديث عن موضوعية العلم يضطر الباحث إلى القيام بعملية ارتدادية في الزمن، بالرجوع إلى حيث القرن السادس قبل الميلاد،عندما أحلَّت العقلانية الإغريقية،اعتباراً من الفيلسوف (هيراقليطس)،اللوغوس( العقل) بدلاً من الميتوس،(الأسطورة)، لتفسير الظواهر الطبيعية. والذي ترتب عليه القول بوجود (قانون كوني) يحكم الظواهر الطبيعية ويتحكم في صيرورتها الأبدية، بما يؤدي بتلك الصيرورة إلى أن تجري وفقاً لنظام وترتيب وضرورة لا تعطي مكانا للصدفة أو العادة.والنتيجة التي ترتبت على تلك النقلة الأنطولوجية/الإيبيستيمولوجية أن دخلت الثقافة اليونانية عهداً جديداً ببزوغ فجر العقل فيها، وقطعها التام مع مرحلة الأسطورة. اعتبارا من تلك الإشراقة الاستثنائية في التاريخ الإنساني،دخل العقل البشري عصراً جديداً فرض عليه معايير جديدة لفحص عقلانيته. هذه المعايير تمثلت بما يلي : - ربط العقلانية أو الفعل العقلي بقدرة العقل على اكتساب المعرفة الصحيحة عن الكون. - القدرة على اكتساب المعرفة الصحيحة عن الكون لا تتوفر إلا من خلال مشاركة العقل البشري للعقل الكوني في عقلانيته. - مشاركة العقل البشري للعقل الكوني في عقلانيته تتم في حالة واحدة هي:قدرته،أي العقل البشري،على إدراك النظام والترتيب والضرورة التي تتسم بها الظواهر الطبيعية، بحيث يعقل الأسباب التي تنتهي بالمسببات. ومن ثم تحدد مفهوم العقل بأنه "القدرة على إدراك الأسباب". اهتداءً بتلك المعايير الجديدة لفحص العقلانية البشرية، اكتسب الفعل العقلي أو العقلانية تحديداً جديداً هو: المطابقة مع قوانين الطبيعة. والمطابقة مع قوانين الطبيعة تعني إدراك العقل لنظامها القائم على الضرورة الصارمة التي لا تتخلف ولا تتبدل. في الاتجاه نفسه، أعني مطابقة العقل والفعل العقلي المنتج بواسطته لنظام الطبيعة، سارت الفلسفة الحديثة في أوروبا، كما يقول الجابري، إلى الحد الذي نجد فيه فيلسوفا مثل( مالبرانش) يقول: " إن العقل الذي نهتدي به عقل كلي،عقل دائم وضروري". ولقد بقي الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ما قام به من ثورات على الفكر القديم، متمسكاً بفكرة العقل الكلي، متصوراً إياه على أنه القانون المطلق للعقل البشري. وهذه الفكرة،أعني فكرة العقل الكلي وكونه يمثل القانون المطلق للعقل البشري،انبنت عليها نتيجتان مهمتان كانتا بمثابة الأصل الذي أسس موضوعية الفلسفة الطبيعية في أوروبا، ومن ثم العلم الطبيعي على إثرها.هاتان النتيجتان هما:- - بناء علاقة مباشرة بين العقل والطبيعة. - بناءً على تلك العلاقة المباشرة بين العقل والطبيعة، فإن العقل قادر على تفسير الظواهر الكونية والكشف عن أسرارها وقوانينها. ولقد بقيت هاتان النتيجتان محايثتان لعلاقة الطبيعة بالعقل، سواء في مرحلته التأملية، التي امتدت من العصر الفلسفي الإغريقي إلى نهاية عصر النهضة الأوروبية في نهاية القرن السادس عشر، أو في مرحلته التجريبية التي دخلت المجال العلمي الغربي اعتباراً من عصر جاليليو،( 16421564م )، أبي العلم الحديث وحتى الآن. من مضمون العلاقة المباشرة بين العقل ونظام الطبيعة ولدت موضوعية الفلسفة الطبيعية والعلم الطبيعي على إثرها والتي تجلت، أعني تلك الموضوعية، في محورين أساسيين ضمن المسيرة التاريخية للعلم الغربي. وهذان المحوران، اللذان ترتب لاحقهما على سابقهما ترتباً تاريخيا تطورياً، هما: - تفسير الظواهر الطبيعية يتم لذات المعرفة نفسها، بعيداً عن توسيطها لكي تؤدي دورا في أي مجال من مجالات الاعتقاد أو السلوك. لكن، وأيضاً، بدون أن يُرتجى من تفسيرها أية منفعة عملية للإنسان. وهو هدف سيطر على الفكر الأوروبي من العصر الإغريقي وحتى نهاية عصر النهضة.