يعتقد البعض أني أكتب بطريقة مراوغة تقوم بخلط السم بالدسم حتى يتم ابتلاعه بسهولة. ويرسل بعض القراء رسائل تقول إنهم مدركون جيداً لمثل هذه الأسلوب الذي أتبعه، وأنه لن يمر عليهم، طبعاً مع بعض الأدعية اللطيفة. لكن في الحقيقة إني أحاول أن أعبر عن أفكاري ومعتقداتي بأكثر الطرق وضوحاً، لذا فإن كان هناك سم موجود فيما أكتبه (وهذا غير صحيح) فهو بلا شك واضح جداً لست بحاجة لخلطه مع الدسم. مثل هذه التهمة الشهيرة لا تلائم أجواء مرحلة الانفتاح والمصارحة التي نعيشها حالياً وخصوصاً على مستوى الصحافة التي تتصاعد بسرعة مستوى الحريات بها. وإذا كان الكتاب في السابق، مع أجواء حرية خانقة، يعتمدون على اللف والتلميح من بعيد، ويختارون المفردات المخففة، من أجل أن ينتقدوا شيئاً ما، فإن هذا لا ينطبق على الصحفيين والكتاب اليوم الذين لا يفضلون الكلمات التي تدل على معنيين، لأنهم ينشدون الوضوح والمصارحة بأكبر قدر. وفي الواقع أن تلميح الكتاب في السابق عن أفكارهم الحقيقية لا يعني أنها أفكار سامة ولكنهم يستخدمون هذه الحيلة لأنهم لم يكونوا قادرين على التعبير عنها بسهولة، ومع تصاعد مستوى الحريات فإنهم أفرجوا شيئاً فشيئا عن مثل هذه الأفكار الجديدة الخالية من السموم. وهذا يجعلنا نتأكد من الفكرة القائلة أن انعدام الحريات والشفافية والمكاشفة تخلق بيئة ملائمة لبث التصورات المؤامراتية التي توهم الناس أن كاتباً ما أو صحفياً او مسؤولاً يقوم بخلط أفكاره المسمومة بالدسم الشهي ويقدمها للناس حتى يغسل أدمغتهم ويخدعهم. وفي الواقع أن هذه القضية تثبت من جهة أخرى أنها مجرد أكذوبة لأن الشخصيات المتهمة بخلط سمومها بالدسم قد قامت منذ سنوات بالتعبير بشكل مريح عن أفكارها، ولم يتعرض المجتمع لوباء التسمم. لكن الذي حدث يمكن أن نقول بأنه انقلاب كامل في المفاهيم، وتبدل للأدوار، فالشخصيات التي تم تحذيرنا منها عندما كنا صغاراً بأن لا ننخدع بكلامها المسموم هي التي اكتشفنا في النهاية أن ما تقوله هو الدسم فعلاً، الذي يغذي عقولنا وينور بصائرنا. والشخصيات التي روجت مثل هذه التهم هي في الحقيقة صاحبة الأفكار المسمومة التي تهدف الى قتل عقولنا، وإطفاء بصائرنا. إذا قمنا بمقارنة بسيطة يمكن أن نكتشف ذلك بسهولة، الشخصيات المتنورة التي تدعو للتسامح والتعايش واحترام الأديان والانخراط بالعالم وتعلم اللغات والانفتاح على الثقافات الأخرى واحترام حقوق الإنسان مهما كان انتماؤهم هم من كانت توجه لهم تهمة تسميم عقول المجتمع على الرغم من ان الواقع اليوم يقول بوضوح ان ما يدعون له هو العلاج الذي يشفي المجتمعات ويجعلها تتعافى وتزدهر. والنماذج على ذلك كثيرة من سنغافورة وحتى كندا. اما الشخصيات التي روجت مثل هذه التهم، وقالت ان افكارها وآراءها هي الدسم الكامل قد أثبت الواقع انها صاحبة أكثر الأفكار سمية التي نخرت في قلب المجتمعات حتى أدت الى انهيارها. فبدل الانخراط مع الحضارة الغربية التي اتخذت طابعاً كونياً قررت الدخول معها في حالة عداء، وبدل ان تخلق جواً من التعايش نبذت كل المختلفين معها حتى في أصغر التفاصيل، وبدل ان تعتمد على الرؤية العقلانية والإنسانية في رؤيتها للحياة اعتمدت على الرؤية التي تحركها الأحلام والخرافات. والواقع أثبت ان مثل هذه الأفكار هي مدمرة بالفعل ويمكن أن نرى كيف انهارت مجتمعات طبقت حرفياً مثل هذه التعاليم. في هذه الحالة يمكن ان نكتشف من الذي كانت أفكاره سامة ومن كانت أفكاره دسم مفيد للمجتمع.ولن أقول إنهم قاموا بخلط السم بالدسم لأن أفكارهم في الواقع سامة بشكل كامل وهم يعلنونها على هذه الطريقة الواضحة لأنهم يعتقدون بكل يقينية أنها هي الأفكار الصحيحة التي لا تحتاج الى لف ودوران. ولكن مثل هذه التهم بخلط السم بالدسم هي تنجح جماهيرياً في تخريب صورة الأطراف المختلفين فكرياً. فعندما أقوم بالترويج عن كاتب او مفكر بأنه يقوم بمثل هذه الخلطة الخبيثة فإنه تخلق حالة من الحذر والترقب لدى القارئ الذي يعتقد أنه واقع تحت مؤامرة ينصبها الكاتب لكي يعبث بعقله، لهذا فإنه يتعامل مع أفكار الكاتب بطريقة طاردة حتى قبل أن يقرأ له كلمة واحدة. ويبدأ بتحليل العبارات والكلمة حتى التي لا تحمل أي دلالات معينة بروح من الحذر والخوف، وسيجد في النهاية في الكتاب او المقال أي شيء تبرر له قناعته الجاهزة قبل القراءة. لهذا فإن كثيراً من الناس يكرهون كتاباً وصحفيين قبل أن يتعرفوا عليهم، وحتى لو قرأوا لهم فإنهم اتخذوا قراراً منذ البداية بأنهم كتاب منحرفون فكرياً ويخلطون السم بالدسم. ويبدو واضحاً ان هذا قرار لا يتخذه الشخص بنفسه، ولكنه نابع من تأثير تيار او شخصيات أخرى وضعت الكاتب في هذا القالب المريب. الخوف هو أكثر المشاعر التي تحرك الناس ويجعلهم يتخذون قرارات مصيرية. ويستغل البعض مثل هذه المسألة الحساسة في طبيعة الناس من أجل ان يدفعهم لاتخاذ قناعات معينة دافع الخوف. وتهمة خلط السم في الدسم هي تعتمد على هذه اللعبة بالذات، وهي قادرة على إخافة الآخرين على أنفسهم وعائلاتهم من هذه الأفكار الجديدة التي يعتقدون - بسبب الشحن الذي تعرضوا له - انها ستتسبب بتسميم أفكارهم. لهذا يتخذون قرارات خائفة ومرتبكة بعزلها عن عقولهم بدون أن يعرضوها للفحص العقلي. اللعبة التي تعتمد إثارة عواطف الناس وإخافتهم إذا كانت نجحت في السابق فهي لن تستمر في نجاحها الآن. الوعي الشعبي في تصاعد الأمر الذي سيجعله يكتشف مثل هذه الأساليب بسهولة، والنزعة العقلية الاستقلالية الصاعدة في الأجيال الجديدة تحب أن تتخذ خياراتها بدون تخويف او إملاء من أحد. والأمر الآخر هو الحريات المتصاعدة في الإعلام التي تجعل الكتاب يقولون بصراحة إنهم لا يفضلون مثل هذه اللعبة السقيمة والقديمة. لذا فإن جميع الأفكار الموجودة في هذا المقال وغيره واضحة وليست مخلوطة لا بدسم ولا حتى بمشروب غازي.