لو ولد علي الضمادي في العاصمة الإيطالية روما أو إحدى ضواحي مدريد، لتسابق نقاد الحركة الفنية المحلية إلى (دحش) اسمه في قراءاتهم عنوة لتلميعها بفنه وموهبته، لكنه وهو المولود في مكان قصي من إحدى الحارات السفلية بحائل، فقد عَشتء عنه عيونهم حتى لا يكاد يسمع عنه أو يراه أحد، رغم أنه فيما أعلم واحد من بين قلة من التشكيليين العرب المبدعين فيما يُعرف بالتشكيل بواسطة (الطرق على النحاس)، وهو الفن الأكثر مشقة و استعصاءً، حيث احتراف مثل هذا النوع من الفنون يتطلب أنامل بالغة المهارة، وتناغما شديد التعقيد ما بين رهافة الحس وعمق الرؤية وقسوة الطرق.. هذا فوق ما يستدعيه من الصبر والمجالدة . ولأنه فنان حقيقي ومتميز فقد اختار أن يُجرّب أدواته تاركا رفاهية الريشة واللون، موغلا في التقبيب من خلال هذا المعدن العصيّ الذي لا يهب ذاته بسهولة، ليثبت لنفسه وللآخرين أن الفن الحقيقي ورغم كل ما فيه من الشاعرية يظل أكثر مضاءً في اختراق كل الصلابات وتطويعها لصالح الرؤية الفنية الضاربة في التحدي . ولأن الضمادي مسكون حتى النخاع بروح الفنان فقد انحاز في أعماله لمفردات بيئته، مستلهما منها صور أبطاله التي توقظ في الوجدان ما كان هامشا منوّما في رؤية الناس ليبدو متنا يضج بالحياة في أعماله المبدعة كالبائعة في سوق الحريم، وعازف الربابة، وضاربة الدف في الأفراح وغيرها، وهي أعمال متعبة للناظر المتعجل - كما يقول جارالله الحميد - أو المشاهد المهيأ سلفا بمفاهيم ممعنة في القصور! وعلي الضمادي الذي يقول عنه القريبون منه : أنه ما أن يفرغ من عمله في محترفه البسيط كل مساء، حتى يُلقي بنفسه من شدّة الإعياء، لا يبيع لوحاته، ولا يُتاجر بها، ولا يرشو بها الأثرياء للتكسب أو البحث عن الصيت، وإنما يُهديها (كلها) إلى متذوقي فنه بسعادة فنان حقيقي يجد أن قيمة عمله لا تتجسد إلا في تذوّق من يمتلك هذه اللوحة أو تلك، وعمق إحساسه بمضامينها الفنية.. لهذا بقي اسمه لا يزن شيئا ذا بال في أضواء التشكيليين الذين تستضيفهم الفضائيات، وتطير معارضهم إلى كل أصقاع الأرض، مقابل ما تزنه موهبته من الإبداع النقي . ولأنني أؤمن أن الوطن لا يُمكن أن يُقدّم إلا من خلال مبدعيه - في شتى المجالات - بل لأنني أستكثر أن تتأطر صورتنا أمام الآخرين عبر هذه المناكفات ما بين رجال الحسبة والمتسكعين، ولأنني - مرّة ثالثة - أعرف أن هنالك أكثر من علي، وأكثر من موهبة تعيش في مغارات التجاهل أو التجهيل.. فإنني أتساءل فقط : أين هذه المواهب من أسابيعنا الثقافية التي تُقام من حين لآخر في مختلف عواصم الدنيا؟