بشر فوكوياما في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" بانتصار الرأسمالية وأدواتها الفلسفية مثل نظام السوق المفتوح والاقتصاد الحر وتوقع أو تمنى تحقيق فوز ساحق للرأسمالية على كافة النظم والأفكار الأخرى ليعيش العالم في "نعيم" الكاوبوي الرأسمالي!! وتجر البشرية أذيال الهزيمة تحت هيمنة القطب الأحادي المتفوق علماً وحضارة وفكراً ومادة، ولكن!! لقد اكتشف العالم مبكراً "حسنات" القائد الفذ والليبرالية العسكرية في أبوغريب وغوانتانامو وتذوق أطفال غزة عدالة الليبرالية على طبق من دم والمكر مستمر في دارفور والصومال وبقية البلدان المغلوبة !! ثم قدم فوكوياما كتابه الثاني بالتراجع عن "نهاية التاريخ" لأن التاريخ مازال يكتب في أفغانستان وبلاد الرافدين في خضم الحملة العالمية لنشر الفكر الرأسمالي والحضارة الليبرالية بالقوة!! وعندما انهزمت القوة (لولا فزعة العربان) حدث ما لم يكن في الحسبان!! ها هي الرأسمالية تنتكس على عقبيها ليس بقوة السلاح ولكن بفعل "الأطماع البشرية ذات المنحى الفردي البحت"، فأنقذ الفيلسوف الياباني الأصل نفسه من مقصلة الانتقادات الفلسفية!! ويبدو انه سيضطر الآن لنشر كتاب ثالث يوضح فيه أن أماله في انتصار الرأسمالية أضحت مثل أمل إبليس في الجنة !! ومن حسن حظ هذا الفيلسوف أنه تراجع عن آرائه في كتاب معللا ذلك بأنه ليس من البساطة أن يوجد في التاريخ منتصر واحد ولعل ذلك يأتي مصداقا للآية الشريفة (وَلَوءلا دَفءعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعءضَهُمء بِبَعءضٍ لَفَسَدَتِ الءأَرءضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضءلٍ عَلَى العَالَمِينَ)!! مشكلة الرأسمالية أنها أخذت حدا متطرفا بقيادة اليمين المتطرف في الولاياتالمتحدة والتطرف لا يأتي على شيء إلا شانه!! لقد فُتحت كافة السبل للمصارف وشركات التمويل لتفتك بالناس وتبيع ديونها على مؤسسات أخرى على وقع أطماع لا حدود لها فتكونت كرة جليد من الديون والفوائد المركبة وكان حتما مقضيا أن تنفجر فجاءت النتائج كارثية ليس على الاقتصاد الأمريكي فحسب ولكن على الاقتصاد العالمي برمته!! أما الشركات الأمريكية فقد امتطت صهوة العولمة وفتكت باقتصاديات الشعوب نهباً في القايله يا هاليبرتون!! يدعمها في تقمصها لفلسفة التاجر اليهودي الشهيرة دولار ضعيف عن قصد وتوصلها إلى حيث الأرصدة والعقود والصفقات بوارج ودبابات أمريكية تدعي نشر الحرية ..وهي تنحر البشرية!! الآن وبعد سنوات قليلة من وفاة المتظاهر الايطالي الذي احتج على العولمة والفكرة الرأسمالية الاستعمارية وما ينزوي تحتها وبعد التدحرج الخطير لأزمة الرهن العقاري وما يختفي خلفها، ظهر الحق وزهق الباطل وتقلبت شفاه الناس أحد بالامتعاض وأحد بالتشفي وثالث يقول "أين المعتبرون من سير الأمم وقصص الحضارات"!! هاقدتوالت تصاريح النقد والانتقاد وعروض التمحيص والمراجعة للفكر الرأسمالي (انظر مثلا إلى تصريحات الرئيس الروسي ميدفيد) وفي جانب آخر برزت بقوة محاولات التمرد من السيطرة الأمريكية السياسية والعسكرية على العالم إلى درجة أن بعض الدول اللاتينية الصغيرة تجرأت وطردت فخامة السفير الأمريكي!!يبدو أنها بداية تاريخ جديد من التمرد وسطوة الكاوبوي على العالم إلى زوال!! التطورات التي حصلت مؤخرا لن تؤدي إلى انهيار الرأسمالية ماديا ولكنها بلا شك صبت الكثير من الشكوك حول الجدلية الفلسفية للرأسمالية خاصة تلك المتعلقة بمقترح "دعه يعمل" مقابل فلسفة "يا عمال العالم اتحدوا"!! تاريخيا تميزت الرأسمالية بقدرة عجيبة على التعديل adjustment كما حصل مع ظهور ثورة المدرسة الإنسانية وتعالي المطالبات بتفعيل المسؤولية الاجتماعية للشركات، واليوم نجد في الأخبار والتقارير محاولات الرأسمالية للتعيل والتخفيف من أطماع الفرد!!وتهور المؤسسات المالية عن طريق التأميم ودعم المصارف والتدخل الحكومي بالتملك المباشر في هذه المؤسسات وغيرها من حزمة قرارات تهدف إلى منع إفلاس البنوك حتى لا يفلس الاقتصاد كما أفلست إذن، الرأسمالية تعدل نفسها، مقابل فقدان البريق الفلسفي، بالتوجه كثيرا نحو الجنوب ولنحمد الله أن أحيانا حتى رأيناهم يقتربون أكثر نحو فلسفة "لا ضرر ولا ضرار"!!