قال ونحن نتحدث عن موت شاعر كبير، كنا قد صلينا عليه في مسجد ريجنت بلندن، قال : كيف للشعراء أن يوصوا بأن يُصلى عليهم؟ قلت كثير من الشعراء يكونون عادة أكثر الناس حساسية وقرباً من الله، لأن أرواحهم حية نابضة متجلية.. ضحك وقال أنا لست مؤمناً بعالم الروح ... لا شيء اسمه روح !! نحن نموت كما تموت القطط والكلاب والفئران، فهل لهذه أرواح..؟ وزاد: هل للبغال والحمير أرواح..؟ وضحكت في داخلي وسخطت في آن.. ضحكت من بلادته وغلظته وهمود حسه وجمود ذوقه وركاكة عقله.. وسخطت لأنه كان مسؤولاً عن مثقفين وأدباء يديرهم ويتحكم في أرزاقهم وأرواحهم .. وقلت إنك قد تقبل أن تكون نهايتك نهاية كلب أو فأر أو حمار.. لأنك ببساطة إنسان حي غلبت عليك فطرة البهيمية، تأكل وتتلذذ، وتنام، وتكفر وتفءجر ولا تفكر.. ولا تستخدم عقلك ولا منطقك.. ولن أقول لا تستخدم عواطفك وأحاسيسك ومشاعرك. لأن هذه من أعمال الروح والنفس التي لا تؤمن بها، فإذا كانت نفسك لا تسمو إلى الإبداع ولا ترتقي إليه، أفلا يهديك عقلك للتفكير فيما حولك؟! الا يهديك عقلك إلى بناء الكون، وانسجامه، ودقته وتوازنه، وانضباطه؟ الا يفكر عقلك في بنائه، وانسجامه، وانضباطه؟ الا تفكر في نفسك، في سمعك وفي بصرك وفي قلبك، ودمك وعقلك، كيف انتظمت واتسقت، كيف تنظر إلي، كيف تحاورني وتحاجّني؟! ألست تحاجني الآن؟ كيف لك بهذه الآلية الدقيقة في الإصغاء والتفكير والاستيعاب، والرد السريع؟ أليس في هذا دليل على أنك كائن استثنائي ومتفرد؟ فمن أين جاءت لك هذه الفرادة؟! هل تزعم لي أنها الطبيعة؟ ثم قل لي ماهي الطبيعة التي صنعت هذا كله، هل ماتت الطبيعة فتوقف عن العمل، وعن خلق أناس آخرين، وكائنات أخرى؟! قال في برود : لا يهمني ذلك مطلقاً. قلت : طبعاً لا يهمك لأن طبعك البهيمي أقوى وأغلظ من طبعك الشعوري والوجداني، إن روحك أقرب إلى روح البغال منها إلى روح الشعراء... فالبغل لايفكر في رائحة العطر ولا في نسمات الفجر، ولا في ضوء الكواكب، البغل لا يستطيع أن يصنع شعرا آخاذا ولا موسيقى راقية ولا لحناً عبقرياً يأخذ بمجامع القلوب، البغل لا يفكر في جمال اللوحة وإبداع الريشة سواء ريشة صانع الكون والوجود أم ريشة ذلك المخلوق الذي وهبه الله نعمة الفن من روحه في محاكاة الوجود في ارتقاء وذوق. مع أنك ياللمفارقة تملأ جدران بيتك باللوحات، وتملأ أدراج منضدتك باشرطة الفن، ومع هذا تنكر الروح، وتعتبر أن صانع هذا الإبداع الرائع "الإنسان" هو في النهاية يحمل روح بغل وينتهي نهاية بغل!! مع أن البغال يا أستاذ قد تكون لها أرواح ولكنها أرواح محددة القدرة والتسامي والإبداع، إنها أرواح تتماشى مع طبيعة الفطرة التي فطرت عليها، والفطرة أيها الأستاذ هي اشبه شيء بال "تشب" في الكمبيوتر تجعله يتحرك وينتج وينطق وفق قوانين محدودة، فكل حمار وضع الله في رأسه "تشب" متشابها مع أخيه الحمار، وكذلك البغال والضفادع، والقنافذ، وأصغر الحشرات.. لكن ال"تشب" في العقل الإنساني شيء آخر.. إنه شيء روحاني اثيري يطور نفسه ويعلمها ويزكيها وينقدها، ويرقى بها أو ينخفض كما انخفضت نفسك، ولا علاقة للعقل بكل ذلك، فالعقل يمكن أن يحل مسألة حسابية معقدة، أما الروح فإنها تذهب إلى جوهر الأشياء وأضوائها.. العقل محلل معلل مستقرئ ، أما الروح فهي ذلك الضوء الذي يحرك المشاعر وينير حلكة الدرب لرؤية القبح والجمال، فلا أحد يعشق بعقله، ولكنه يعشق بتلك اللمسة الروحية السحرية الراعشة. الإنسان أيها الأستاذ، من مِيزه التي مَيّزه الله بها عن بقية الحيوانات أنه يتعلَّم ويعلِّم أي أنه يتوارث المعرفة وينقلها إلى الأخرين من بني جنسه، وهذا ما جعل الإنسان يتطور من صناعة القوس إلى صناعة القنبلة الذرية، ومن المحادثة بالصدى إلى الحديث عن طريق الهاتف النقال في كل زاوية من زوايا الدنيا. لكن البغال والقردة والحمير والكلاب قد تتعلم شيئاً ولكنها لا تستطيع نقل المعرفة إلى أجيالها، فقد يتعلم القرد شيئاً من الإيقاع وبعض الحركات والمهارات ولكنه لا يستطيع أن ينقلها إلى أولاده أو أصدقائه وأهل قريته. وهذا ما جعل صانع الكون يسخّر هذه الكائنات الحيوانية للإنسان والتي هي دون وأقل من عقله بكثير كي تخدمه لأنها لو كانت في مستواه العقلي أو قريبا منه لأهلكته وأفنته ..!! لكن صاحبي قاطعني قائلا عفواً دع عني هذا كله فإن لدي موعداً أخشى أن أتأخر عنه فيموت.. تركته يذهب.. أما أنا فقد مشيت وأنا أردد بعض أشعار ذلك الشاعر الذي مات وصلينا عليه، ثم تلوت بعد ذلك قول الله "إنك لا تُسمع الموتى، ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولوا مدبرين".