كانت هواية الزعيم جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو المصرية عام 1952التنصت على الجميع.. على خصومه وأصدقائه.. على كافة السياسيين وعلى الكتاب والمفكرين والصحفيين والمثقفين والعلماء والسفارات والوزراء وزوجاتهم وأبنائهم وكذلك التنصت على أشخاص لا صفة لهم ولكن بشكل عشوائي.. كل ذلك بغية معرفة آراء الناس الحقيقية به وبحكمه وثورته وكذلك لمعرفة أية مؤامرة قد تحاك ضد الثورة أو زعيمها. كان عبدالناصر يستمتع يوميا بجلسة الاستماع تلك.. كانت تطربه وتشجيه وتشنف مسامعه.. كان قلبه يغرد فرحا عندما يسمع إطراء أو مديحا.. ويثور غضبا حين يسمع رأيا لا يعجبه أو يستمع الى نكته سخيفة أو قبيحة تقال بحقه أو بحق ثورته أو حكومته.. وكان يستشاط غضبا حين يلمح أو يستيقن بوجود مؤامرة تحاك ضد الثورة أو السعي للإساءة إليها أو السعي إلى التخابر مع جهات أجنبية أو خارجية بما لا يخدم مصالح الثورة.. وقد استضاف عبدالناصر في سجونه ومعتقلاته الكثير من الشخصيات العامة وأشخاصاً مجهولين ومغمورين نتيجة لعمليات التنصت تلك.. بدءاً من الصحفي الكبير مصطفى أمين الذي وجد أنه يتآمر مع السفارة الأمريكية ضده وانتهاء بطلبة الجامعة الذين كانوا يحثون الطلبة للقيام بمظاهرات ضد قرارات الحكومة وغيرها. كان عبدالناصر يؤمن بالديمقراطية ولكنه كان يكره تطبيقها.. يحبها وصفا ولا يطيقها واقعا.. يتقبلها شعارا ولا يقبلها شريعة.. إنها أزمة عبدالناصر الحقيقية بين تناقضات القول والفعل اللذين لا يتطابقان أبدا.. لذلك لم يكن جمال عبدالناصر يقبل أو يتقبل أبدا أن يجد هناك من يخالفه الرأي أو يعترض على قرارات الحكومة أو يكتب مقالا ينتقد فيه مواقف وسياسات عبدالناصر وحكومته، لذلك كانت سنوات عبدالناصر في الحكم هي أشد سنوات من حيث كبح حرية الرأي والتعبير في تاريخ مصر.. وهي أكبر فترة امتلأت بها السجون والمعتقلات بالضيوف من كافة أطياف المجتمع سياسيين وفنانين وصحفيين وكتاب ومثقفين وعلماء وأكاديميين وأناس لا علاقة لهم بشيء.. حتى بتوع الأتوبيس !!. أنشأ عبدالناصر جهازا ضخما ومتخصصا في التنصت على المكالمات تحت إشراف سكرتيره الخاص سامي شرف.. وكان هذا الجهاز يمتلك كافة الإمكانات والصلاحيات ولا يخضع لأي جهة كانت.. كان عبدالناصر شخصيا هو الذي يرأس هذا الجهاز ويديره، ويعلو على كل السلطات ويمارس عمله فوق الجميع ولا يخضع لأي أجهزة.. لا الشرطة ولا الجيش ولا أمن الدولة ولا غيرها.. ولا أي أحد مهما كان يعلم ماذا يفعل هذا الجهاز أو يتنصت على من.. وكان هذا الجهاز قريبا جدا من مقر إقامة عبدالناصر كي يمده بالتطورات أولاً بأول.. وكانت كافة التسجيلات التي تتم تنقل الى الرئيس عبدالناصر كشرائط تسجيلية وكذلك نسخة نصية مفرغة.. وكان عبدالناصر يجد متعة كبيرة بقراءة تلك التسجيلات والاستماع الى ما تحتويه من معلومات وخصوصيات.. وكان يقضي الساعات الطوال معتكفا بصحبة تلك التسجيلات.. ولم يكن أحد أيا كان فوق الشبهات أو لم تطله تلك التسجيلات حتى أقرب المقربين من الرئيس جمال عبدالناصر كان لهم نصيب كبير من تلك التسجيلات.. وفي مذكراته الشخصية أفرد سامي شرف طويلا في وصف تلك التسجيلات ومحتوياتها وأبطالها.. كما أشارت مذكرات العديد من السياسيين الذين عاصروا عبدالناصر في مذكراتهم عن تلك التسجيلات وضحاياها. عبدالناصر لم يبتكر فكرة التنصت أو التجسس على خصومه وأعدائه.. لقد ورثها من قادة سياسيين آخرين سبقوه تأثر بهم وبأفكارهم.. ففضل السير على طريقهم.. مثلما ورث منهم أفكاراً سياسية أخرى سعى لتطبيقها في مصر فكانت وبالا على مصر والمصريين.. لكن الفكرة أعجبته وراقت له كثيرا، فبالغ في تطبيقها وزيادة جرعتها. مات عبدالناصر وخلفه قادة آخرون لم تستهوهم ذات الهواية، وأغلق جهاز التنصت وأحرق السادات الاشرطة والتسجيلات وانتهى ذاك الزمن الى غير رجعة.. ولكن يبدو أن هواية عبدالناصر القديمة لم تنته اذ جاء حاليا من يحاول أن يحييها من جديد ويمارس ذات العمل الذي ظننا أنه انتهى الى غير رجعة. التنصت أسلوب سياسي عريق قبل عبدالناصر وبعده.. ولا يمكن لأي دولة أو جهاز أمني أن ينفي تورطه في قضايا التنصت لأنه من الأساليب الأمنية المتعارف عليها وان اختلفت أساليبه وتطورت مع تطور العلم والتكنولوجيا.. ويقال إن أمريكا الآن وعبر التطور التكنولوجي العظيم والأقمار الصناعية أصبحت تتنصت على كل شيء بالصوت والصورة دون الحاجة إلى اللجوء إلى الأساليب القديمة المتعارف عليها.. وكم كان عبدالناصر سيسعد لو كان يمتلك القدرة على التنصت على خصومه وأصدقائه بالصوت والصورة مثلما تتيح ذلك الأجهزة المتطورة حاليا.. ولا يستغرب أحد أن يكون ضحية من ضحايا التنصت سواء كان ذا قيمة سياسية أو كان من بتوع الاتوبيس.. ودمتم سالمين.