* أن تجرف الولاياتالمتحدة بأزمتها الأخلاقية قبل أن تكون مالية وراءها العالم بأسره إلى الهاوية، وإلى المصير المجهول بهذه الصورة المرعبة، التي لم يسبق للمجتمع العالمي أن شهدها منذ بزغت أول شمسٍ على الإنسان فوق سطح الأرض؛ فلا بد أن وراء ذلك الحدث الجلل حممٌ بركانية يجب التعرّف عليها. وأؤكد أنك وأنت بمواجهة هذا الموقف العصيب الذي لم يشهده إنسانٌ قبلك؛ أن عليك أن تأخذ نفساً عميقاً لتفهم جيداً ما حدث أولاً، وثانياً لتبدأ في البحث الدقيق والدقيق جداً في حقائق وأسباب وحيثيات هذه الأزمة التي تورّط فيها الجميع دون استثناء! حينها سيصبح بإمكانك رؤية التطورات المتسارعة والمرعبة على شاشات الفضائيات وفي أروقة البورصات العالمية بدقةٍ تامّة، وبعيداً أكثر من غيرك عن الارتهان إلى القلق النفسي والتحيز والارتباك الذين قد يقودونك مجتمعين في هذا الظرف البالغ التوتر إلى مقصلة الهلاك! رغم أنك قد تكون في أصل الأمر الأكثر أماناً من غيرك لو أنك قمت بالدور المطلوب منك في البحث عن الحقيقة، وفي مثل موقفنا الراهن اقتصادياً ومالياً برأيك أين ستجد الحقيقة التائهة إن لم تجدها في مصفوفة الأرقام؟! التي تقطع بيقينها كل شكوك يُحتمل أن تنشأ عن جملٍ إنشائية لا تسمنُ ولا تُغني من جوع. لا شكَّ أن الإحصاءات الحديثة والدقيقة الموثقة من المصادر الرسمية المعترف بها، هي سلاحنا هنا الذي لا يفلّه تطبيل مراوغ، ولا يهزمه جعجعة مُرجف، كما لا يقف بوجهه الصارم مهادنٌ لم يفق بعد من غيبوبة الصدمة. فلماذا يا تُرى شهدنا قلاع العالم المالية العملاقة من الشرق إلى الغرب تتهاوى كأحجار الدومينوز بسبب تجاوزاتٍ ومخالفات ارتكبت في الوول ستريت؟! وهل الخوف والهلع الذي عمَّ أرجاء العالم المعاصر له ما يبرره؟ وماذا على كل طرفٍ من الشبكة العالمية المالية المعقدة التفاصيل أن يقوم به لدرء الخطر عنه، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ حينما تؤكد الإحصاءات الأمريكية المصدر أن جميع دول العالم باستثناء ما يمكنك عدّه على يدٍ واحدة، قد أودعت جزءاً لا يُستهان به من أموالها واستثماراتها في معقل الرأسمالية المعاصر، فإنه سيسهل عليك فهم لماذا تهاوت الأسواق المالية بهذه الصورة المرعبة! وحينما تعلم أن (سماسرة) الفوضى المالية الأمريكية جابوا الأرض طولاً وعرضاً لتسويق منتجاتهم الائتمانية المهيكلة على أساسٍ من الطمع ولا سواه، كان من أخطرها سندات الرهن العقارية سرطان الأزمة العالمية الراهنة، ستتأكد لديك فكرة أكثر وضوحاً عن أسباب هذه القيامة العظمى في عالم المال والاقتصاد. وفقاً لإحصاءات Bureau of Economic Analysis التي تصبُّ فيها جميع بيانات وإحصاءات الاقتصاد الأمريكي، فإن العالم بأسره قد استودع أكثر من 20تريليون دولار أمريكي حتى نهاية عام 2007م، كما توضح ذات المصادر للإحصاءات أن الولاياتالمتحدة أيضاً هي المارد الأكبر على مستوى العالم كأكثر الدول التي تمتلك استثمارات خارج حدودها، حيث وصلت بنهاية 2007م إلى أكثر من 17.6تريليون دولار أمريكي، ما يعني أن صافي الاستثمار الدولي للولايات المتحدة حتى نهاية الفترة لصالح دول العالم، حيث ظهر بقيمة سالبة بلغت أكثر من 2.4تريليون دولار أمريكي، كما يتضح أيضاً للجميع أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تتربع دون منافس على قمة الاستثمار الدولي. توضح القراءة التفصيلية لأرقام تلك الاستثمارات العالمية داخل الولاياتالمتحدة أن الخطر الأكبر آتٍ من نحو 61.5في المائة من إجمالي تلك الاستثمارات، أي ما يعادل نحو 12.4تريليون دولار أمريكي، وما يعادل تقريباً ثلاثة أرباع الاقتصاد الأمريكي برمته! والتي تتمثل في 2.2تريليون دولار أمريكي لبند المشتقات المالية، وأكثر من 6.1تريليون دولار أمريكي لبند السندات والأسهم العائدة للشركات الأمريكية، وأخيراً أكثر من 4.0تريليون دولار أمريكي المقيدة على أنها التزامات على البنوك الأمريكية لصالح المستثمرين الأجانب. في رأيي أن هذا هو (حقل الموت العالمي) الذي يمكن أن يتأثر بصورةٍ مباشرة بتداعيات الأزمة العقارية الأمريكية، قياساً على ارتفاع درجة الارتباط والتشابك المعقد بين المؤسسات والشركات والبنوك الأمريكية بصفتها المستودع الأخير لتلك الاستثمارات الأجنبية، والتي لا يمكن التهوين من درجة ارتباطها بمواطن وباء الأزمة المشتعلة الآن! فماذا لها أن تفعل لقمة (بوش الابن) التي لا يتجاوز وزنها 700مليار دولار أمريكي، أمام هذا الالتزام الأمريكي الهائل القيمة تجاه دول العالم؟! دعء عنك حجم الاستثمارات الأمريكية المحلية المكمل للقيمة الإجمالية للاستثمار الكلي في تلك الشركات والمؤسسات والبنوك، لا شكّ أنها ستبعث كثيراً على عدم التفاؤل بصورةٍ أكبر وأصعب. الآن يمكن لنا القول أن جزءاً بالغ الأهمية بالنسبة لنا كسعوديين قد اتضحت معالمه، ويكفي حتى هنا أن لدينا (ميزانٌ رقمي) يمكن لنا بواسطته أن نستشف حجم وعمق المشكلة المالية الأمريكية، ودرجة ارتباطها بما حدث ويحدث والمتوقع حدوثه مستقبلاً. وعليه، إذا أردنا أن نعرف إلى مدى قد يتأثر الاقتصاد السعودي بهذه الأزمة المزعجة، فإن علينا الكشف بشفافية قصوى عن أي (ريال) لنا يُحتمل أن يكون مودعاً ضمن هذه الثروات الهائلة المرسلة إلى أروقة الاقتصاد الأمريكي، وهذا المطلب الاقتصادي الملح يشمل جميع الأطراف بدءاً من الحكومة، مروراً ببنوكنا المحلية، وانتهاء بشركاتنا المساهمة وحتى الشركات العملاقة المؤثرة في الاقتصاد الوطني. قد يكون ما تقدّم هو الجانب الأكثر مدعاةً إلى القلق والتوتر، ذلك أن بقية الاستثمارات الأجنبية في الولايات نجد الطرف المقابل لها هو الحكومة الفيدرالية، وهذا مبعث اطمئنانٍ إلى حدِّ كبير، تنتهي حدود هذه الطمأنينة متى ما فشلت (واشنطن) في جهود إنقاذ الاقتصاد الأمريكي من الفضيحة المالية التي تسببت فيها (نيويورك)! والتي تتجاوز قيمتها 7.7تريليون دولار أمريكي، بما يعادل 38.5في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في الولاياتالمتحدة، فكما يُلاحظ أن نحو 4.1تريليون دولار أمريكي تتمثل في أوراق مالية أصدرتها الحكومة الفيدرالية، وهذا يدعم الثقة فيها أكثر من أي من الخيارات الاستثمارية الأخرى المُشار إليها أعلاه. وفيما يتعلق باقتصادنا السعودي، فإن أغلب استثماراتنا المستودعة في الولاياتالمتحدة هي في هذه الأوراق المالية، وعليه يمكن القول ان الخوف والهلع الذي شهدناه طوال الفترة الماضية كان برمته مبالغاً فيه، وأنه تجاوز المعقول بصورةٍ غير مبررة؛ إلا من الجهل وعدم المعرفة بحقائق الوقائع والتطورات الجارية في الوقت الراهن، وهذا الأمر المؤسف بصورةٍ مؤلمة يتحمل الجميع مسؤوليته دون استثناء، كان جزؤه الأكبر واقعاً على عاتق الجهات الاقتصادية والمالية المحلية (وزارة المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي، هيئة السوق المالية) أكثر من غيرها، إذ كان من الواجب عليها أن تبادر مبكراً بإيضاح موقفنا المالي والاستثماري تجاه هذه الأزمة العالمية، وأن لا تترك تلك الجهات هذا العبث والعشوائية يفعل بسوقنا المحلية الأفاعيل، حتى تجاوزت خسائره الرأسمالية 500مليار ريال في ظرف أيامٍ معدودة!! كما تشمل تلك المسؤولية دون شك البنوك المحلية والشركات المساهمة والشركات الاستثمارية، التي وجب عليها المبادرة مبكراً بإيضاح ما إذا كان لها علاقة أو استثمارات مباشرة أو غير مباشرة مع مصادر الأزمة العالمية، وألا ننتظر قطرة أمل يتيمة كالبيان المستنسخ الذي صدر مؤخراً عن البنوك المحلية بعد الدمار الهائل الذي لحق بمكتسبات السوق المحلية دون وجه حق. أصدقكم القول انني لم أتفاجأ بردود الفعل المتباينة بين مصدّق ومكذب، التي أعقبتء إشارتي -قبل أسبوع هنا إلى حجم الاستثمارات (الموجودات) السعودية في الخارج البالغة نحو 2.0تريليون ريال! فما هذا إلا ضريبة أن شفافية المعلومات لدينا لا تزال في المهد، وتحت وصاية شريحةُ من موظفي القطاع العام أكل على فكرها الدهر وشرب. ولا يُلام المجتمع الاستثماري المحلي أمام صدمات الأرقام التي تظهر له من فترةٍ إلى فترةٍ أخرى، كونها غائبة عنه، أو يجد صعوبةً بالغة في الوصول إليها. وعليه لمزيدٍ من إيضاح هذه الأرقام (الصدمة) بالنسبة للبعض، فلا بدَّ أن أُشير مرةً أخرى إلى أن أغلب تلك الأصول الاستثمارية في الخارج مستودعة في الخيارات الاستثمارية الأقل مخاطرةً -بإذن الله-، وكما يُلاحظ القارئ الكريم من الجدول المرفق أن ما يقارب 92في المائة عائد للحكومة والمؤسسات شبه الحكومية، وأنها مستودعة في أكثر الخيارات الاستثمارية أماناً والأقل مخاطرة، ونلاحظ أيضاً أن حتى بقية المحفظة الاستثمارية السعودية العائدة للبنوك المحلية وصناديق الاستثمار المحلية، مخزنٌ أغلبها في خيارات استثمارية متدنية المخاطر، وأن ما لا يتجاوز نسبته 4.3في المائة فقط مخزنٌ في مشتقات استثمارية تقترن بدرجاتٍ عالية من المخاطر. إذاً الأمر ليس كما كان متخيلاً لدى أغلب الأفراد، ولهذا وجدت من الأمانة أمام الله ثم أمام مجتمعي العزيز أن أُعد هذا التقرير المفصل من أجل نزع بذور الشك والخوف -غير المبررين- عن الأذهان، وحتى لا تتاح الفرصة لمن أراد الاصطياد في الماء العكر؛ يؤولها وفق أهوائه ومصلحته الشخصية الضيقة. في جانبٍ آخر، لا بد من الإشارة إلى أن تلك الإحصاءات تشمل (فقط) المحفظة الاستثمارية العائدة للحكومة، والبنوك المحلية، والشركات الاستثمارية، ما يعني أنها لا تشمل ممتلكات القطاع الخاص السعودي في الخارج، سواء على مستوى استثمارات الشركات المساهمة أو الشركات الكبرى غير المدرجة في البورصة السعودية، ولا حتى استثمارات كبار رجال وسيدات الأعمال السعوديين، والتي وفقاً لبعض التقديرات غير الموثقة رسمياً تتراوح بين 300إلى 600مليار ريال سعودي! ورغم ذلك فإنها تظل من وجهة نظري مجرد تكهنات لا يجب الاستناد إليها إلا بموجب أن تصدر عن جهاتٍ رسمية، وهذا دور الأجهزة الاقتصادية والمالية لدينا الواجب أن تستشعر حجم مسؤوليتها الجسيمة تجاه أهمية الإفصاح عن حقيقة تلك الأرقام، ويزداد الأمر ضرورة قصوى في ضوء الظروف المعقدة التي يمر بها العالم اليوم بما فيه اقتصادنا السعودي بالدرجة الأولى. وماذا بعد؟! لا بد أن نتعلم جميعنا من الدروس والتجارب التي تمر بنا، وأن نبادر بممارسة المسؤوليات والأدوار الموكلة لكل طرف، هدفنا المشترك المحافظة على مكتسبات الوطن واقتصاده ومجتمعه. لذا أجدُ أنه من الضرورة القصوى؛ أن تبادر الجهات الاقتصادية والمالية المحلية (المجلس الاقتصادي الأعلى، وزارة المالية، وزارة الاقتصاد والتخطيط "مصلحة الإحصاءات العامّة"، مؤسسة النقد العربي السعودي، هيئة السوق المالية، الهيئة العامّة للاستثمار) بالمزيد من الشفافية المستمرة، واتخاذ القرارات والإجراءات الهادفة إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي، وأن تستشعر المسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاه المصلحة العامة، وألا تنتظر كما شهدنا طوال الأزمات السابقة وليس الأزمة الأخيرة فحسب نداءات المجتمع والإعلام للقيام بذلك. كما يجب أن تعتمد في ممارستها لأدوارها ومهامها عنصر المبادرة باتخاذ ما يلزم، لا أن تنتظر اتساع دوائر الأزمات ومن ثم لا تتجاوز أدوارها مجرد ردود فعل، أو مجرد تصريحاتٍ مقتضبة خالية من الشفافية المقبولة أو المقنعة. تلك قضيةٌ بالغة الخطورة والأهمية على ذات الجانبين؛ فماذا سيكون بمقدور تلك الجهات المعنية فعله إن خرجت التطورات -لا قدّر الله- عن السيطرة؟! إنني أتطلع كغيري من أفراد المجتمع أن نرى قريباً جداً تلك الجهات المعنية وقد تخلّت عن قيود الآليات البيروقراطية المعقدة التي تكبّل حركتها، وأن نرى تحولاً ملموساً يرتقي بدوره إلى تطلعات القيادة الحكيمة وحاجات ومتطلبات الاقتصاد والمجتمع. والله ولي التوفيق من قبل ومن بعد.. * عضو جمعية الاقتصاد السعودية