في كل المجتمعات تتميز القيم الحديثة بصعوبة الوصول وبشكل سريع إلى المنظومة المجتمعية حيث تبدأ مساحة الاعتناق للجديد من القيم، الإشكالية الدائمة في القيم الاجتماعية هي تأصل السلبي منها في البناء العقلي للأفراد وصعوبة انفكاكه منها مهما بلغت درجة تميزه المعرفي ومن ذلك قيم التطرف والعصبية على سبيل المثال. ولعل السؤال المبكر الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا نحن بحاجة لفهم مفاتيح المجتمع وعلاقة ذلك بالقيم..؟ في الحقيقة المجتمع ليس كتلة جامدة نستطيع أن نقوم بدحرجتها في الاتجاه الذي نريد متى شئنا..! المجتمع تكوين يتم التعرف إليه عبر (ثقافته المجتمعية كما يقول علماء الاجتماع) بغض النظر عن تطور هذه الثقافة أو تخلفها ولذلك هناك لغة محددة اسمها التكوين المجتمعي ومنتجاته الفكرية والثقافية وقيمه وعاداته وتقاليده والتي نستطيع من خلالها أن نشخص مجتمعاً بعينه. في مجتمعاتنا تبرز قضية صراع القيم أكثر من غيرها نظراً لتأصل قيم تقليدية بعضها أقدم من العقائد والأفكار التي يتعاطاها المجتمع. نحن في التصنيف العالمي دول نامية وليس هذا المدلول مقتصراً على عدم النمو الصناعي فقط وإنما العنصر الأهم النمو كمدلول شامل للتكوين المجتمعي حيث تتشكل سمات المجتمع الفكرية والثقافية والصناعية. في تحليل مبسط لمجتمعاتنا هناك دائماً طرف تلتقي فيه القيم الحديثة والقيم القديمة هذا الطرف هو أكثر المواقع الاجتماعية سخونة حيث يتشكل هناك صراع مستمر يتمثل في مقاومة القديم للحديث هذا الطرف هو ثقافة المجتمع الخط الأول لتلقي القيم التقليدية. المجتمعات الحضرية أكثر من الريفية تلقياً للجديد من القيم حيث أن المجتمعات الريفية غالباً ما تكون بعيدة شيئاً ما عن الصدام الأولي مع المستحدث من القيم، هذا يحدث في المجتمعات التي يكون فيها التوزيع بين المجتمعات الحضرية والريفية شبه معتدل من حيث توزيع السكان. السؤال الثاني هنا: هل لدينا مجتمعات ريفية وحضرية تتصارع مع القيم وما هو أثرها في صناعة كتل التشدد بجميع أشكاله والغلظة والتعصب في مجتمعاتنا..؟ لدينا إشكالية كبرى ذات علاقة بتوزيع السكان جغرافياً ففي مجتمعاتنا العربية بشكل خاص نحن نعتمد على التجمعات السكانية الكبيرة والتي يمثلها بناء المدن ذات الأعداد المهولة من السكان بشكل سريع وغير متدرج مما يسبب طفرة في ثقافة تلك المدن. هذه المنهجية ساهمت في تدفق سكان الريف بما يمتازون به من تقليدية عالية الحساسية إلى المدن الرئيسة والتي أصبحت فيما بعد مدناً كبرى توسعت بفعل الهجرة الكبيرة والسريعة إليها. سكان هذه المدن ممن قدموا من الأرياف والمناطق النائية ليس لديهم الاستعداد الكامل لتقبل القيم الحديثة في المدينة بل إن الكثير منهم يتصادم مع هذه القيم وينشئ تجمعات سكانية أو أحياء تكون أكثر من غيرها في التشدد لصالح فكر اجتماعي بعينه أو ثقافة ريفية محددة. هناك أمثلة كثيرة حدثت في عواصم عربية تعكس هذه النظرية وتثبتها حيث يوجد أحياء لها من سمات التشدد والأدلجة ما يجعلنا نستغرب مثل هذه التجمعات في العواصم الكبيرة ذات الطابع المنفتح. إذا تكونت في العواصم والمدن الكبرى تكتلات تقليدية عالية فمعنى هذا أن هناك خللاً ظاهراً في تلك العواصم من حيث التكوين الجغرافي والثقافي، فليس من التطور والنمو نقل كل سكان الريف إلى المدن الكبرى فالواقع هو أن تمنح سكان الريف مقومات تكفل بقاءهم في مناطقهم لدرء طفرة ثقافة المدن. الحقيقة انه نشأ لدينا سمة معاكسة لحركة المجتمعات الطبيعية حيث أن العواصم غالباً هي الأقل تصادماً مع القيم الحديثة وهي مسبار الاختبار للجديد من القيم ولكن الذي يظهر في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية عكس ذلك بكثير، ولعل السبب واضح مما ذكرت هنا فالقضية أن الريف انتقل إلى المدن الكبرى التي تحولت إلى ريف كبير تضاعفت فيه ممارسات فكرية وثقافية تقليدية. انتقل الكثير من سكان الريف في مجتمعاتنا من مناطق مختلفة ومواقع متباينة فشكلوا تكتلات تقليدية أفرطت في تشاؤمها من واقع المدن الكبيرة فلذلك لم يكن أمامها سوى التمسك بالأفكار التقليدية ومحاولة فرضها بشتى الطرق، فهي أتت بها من الريف وتم تعزيزها بطرق شتى منها رفض الحديث بفرض القديم على الثقافة المجتمعية. في الحالة الطبيعية يتم نقل الأفكار الحديثة والقيم الجديدة من المدن الكبرى إلى الريف تدريجياً وتواجه المجتمعات الكثير من الصعوبات في نشر الأفكار الحديثة في المجتمعات الريفية والبعيدة عن المراكز وهذا يحدث في المجتمعات ذات التوزيع السكاني المعتدل. في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يحدث العكس تماماً فالريف ينقل تشدده إلى المدن الكبرى التي تتحول إلى ريف كبير متكتل من عدة مجتمعات تقليدية يصعب مواجهتها فكرياً وثقافياً، وخير دليل على ذلك أن معظم قيادات التشدد والتطرف الفكري بغض النظر عن نوع هذا التشدد يأتون من تجمعات ريفية أو قروية أو قبلية. في مجتمعاتنا يفقد المجتمع توازنه بدرجة كبيرة ويصعب وضع خط فاصل بين الريف والحواضر السكانية وهذا يعبر عن خلل في علاقة المدن الكبرى بأطرافها من الريف المتمثل في القرى الزراعية والرحل من البدو وغيرهم من الجماعات الريفية. السؤال الثالث هنا يقول: ما علاقة ذلك بالايدولوجيا والتشدد..؟ الواقع أن التشدد كنهج فكري استطاع أن يجتاح المجتمعات بشكل متسارع نظراً لأنه يتحدث لغة رافضة للقيم الحديثة بغض النظر عن درجة خطورتها أو منطقية ذلك التحذير من الأخطار التي يمكن أن تتركها القيم الحديثة، فلازالت رواسب القيم ومنها قيم التعصب للمكان والجماعة تحتل موقعاً مرموقاً في نفوس الأفراد في مجتمعاتنا العربية بشكل خاص. لقد انتهينا إلى أننا لا نجد صعوبة في ملاحظة كل مظاهر الريف والقرى متوفرة في المدن الكبرى بل حتى في طريقة الملبس والمأكل والمشرب بل تعدى الأمر إلى أن مظاهر الحياة مثل الخيمة والمنزل الطيني واستخدام الأدوات القديمة إنما شكلت عنصراً أساسياً في مظاهر المدن. هذا الخلط العجيب في تركيباتنا السكانية له علاقة مباشرة بأفكارنا وطريقة فهمنا للحياة، واستطيع القول ان احد أسباب التشدد والغلو في فكرنا وعصبيتنا نحو المكان والزمان والجماعة مرتبط بكيفية بناء ثقافة المدن لدينا. مدننا ليس لها ثقافة تميزها إنما هي امتداد لباديتنا ومزارعنا ولذلك وعينا الثقافي محدود في فهم كيف تتكون ثقافتنا الاجتماعية ولماذا وكيف تنشأ لدينا الظواهر السلبية. تقليديتنا جعلتنا تواقين إلى تمثيل الماضي بشكله وفكره وخيمته ومزرعته البسيطة وحيواناته وهذا ما جعل من السهل علينا اعتناق الأفكار والتشدد من اجلها، اعتقاداً منا أنها الممثل الوحيد للماضي والتقاليد، فنحن نتداول خطاب الماضي ليس إعجاباً به بقدر ما هو انعكاس لحقيقتنا وشخصياتنا. عالمنا الإسلامي والعربي مهيأ للكثير من مظاهر التشدد لسبب بسيط يتمثل في غياب تام لفهم طبيعة المجتمعات والتوزيعات السكانية، مدننا ليس لها ثقافة تميزها عن غيرها فنحن خليط من ثقافات حضرية وريفية تصارع بعضها ولذلك يصبح من الطبيعي أن ينشأ بيننننا كل ما لم نتوقعه من مظاهر فكرية سواء تطرفاً أو غيره.