تحدثنا الأسبوع الماضي عن تقسيم فلسفة القصيمي على قالب السمفونية المكون من أربعة مقاطع أو حركات موسيقية، وبما أن موضوعة فلسفته قائمة على اليأس المركب من تفاؤل وسخط لكنه (يأس متفائل)، وتحدثنا عما تمثله الحركة الأولى من حال الفاجعة (أو الصدمة الأخلاقية) بأفكار مغايرة لما يعرفه أو لم يكن يعرف سواها، والحركة الثانية عبرت عن حال الصمت الحزين المهزوم المقهور التي تنبئ عبر احتقانه إلى حال انطلاق لا تعرف صفته بما تمثله الحركتان الباقيتان من سمفونية فلسفة القصيمي، ونكملهما: الحركة الثالثة (متوسطة ومتصاعدة): بدا عليه حالة من عدم الرضا تمثلها لحظة القنوط، ولكن حالة السخط تؤكد أن غضباً مكبوتاً بقدر التشاؤم والاكتئاب حيال قرن عربي أهدره العرب بتبرير كل الأخطاء بنظريتَي: المؤامرة والفراغ، فأضاع قرناً كاملاً من حياتهم مؤكداً ذلك عبر مساءلة القصيمي لصورة الاستبداد في الشخصية العربية، وأحزاب الإيديولوجيا الطفولية والفوضوية، وهذا ما شغله في موسوعة فلسفية وضعها باسم "العالم ليس عقلاً" بأجزاء ثلاثة: عاشق لعار التاريخ، صحراء بلا أبعاد، أيها العقل من رآك ؟ لتصدر على أعقاب هزيمة 1967، ولانعدام النقد الذاتي عند النخب الثقافية العربية بكل أطيافها العلمية والفكرية والفنية والأدبية، ولتصاعد حالات الانكسار والإحباط حيث صعق لختام هذه الحركة بكتابيه عام 1971: "أيها العار إن المجد لك"، و"فرعون يكتب سفر الخروج" الذي حلل فيه شخصية الطاغية ولعنة الإيديولوجيا. الحركة الرابعة (راقصة سريعة وخفيفة): تؤكد تطوراً سريعاً منطلقاً نحو حال الغضب والانفجار والأنين متوزعة بين كتب خمسة، كان أحدهما كراس قصيدة، فأكد على مستقبل الإنسانية ودورها الحضاري حين أكد على دور الإنسان وفعل الإرادة في كتابه: الإنسان يعصى لهذا يصنع الحضارات 1972، ثم شرح البنية النفسية والاجتماعية للشخصية العربية، بعد أن تناول الصفة اللغوية في تملك آلة النطق وإصدار الكلام لكن بلا معنى: العرب ظاهرة صوتية 1977، ثم نحو الحوار اللاهوتي، وهذا يعد ابتكاراً مهماً بقدرما يؤكد تطوراً لأفكار وضع جذورها فيلسوفان عربيان: أبوحيان التوحيدي والنفَّري في كتابه: الكون يحاكم الإله 1981، وإذا كان لبنان البلد الذي تمنى لها مزيداً من الحضارة وخلاصاً من العروبة القاتلة فجع وتألم له بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982حيث أطلق صرخته شعراً حاراً في قصيدة طويلة ذات حس ملحمي بعنوان: كنت يا لبنان زهراً 1983، ويراجع القصيمي طروحاته ويشرح بعض نظرياته ويتنبأ بالإرهاب ثم يمضي بعد كتابه: يا كل العالم لماذا أتيت 1986في برهة وقت قبل أن يمضي ويتركنا قبل أن نقفل القرن بأربعة أعوام. لقد ساءل القصيمي فكرياً بالمحاورة المتخيلة والجملة الطويلة والتساؤل الافتراضي في الزمان العربي كل ما له صلة بالحالة النفسية والاجتماعية، التاريخية والحضارية، الدينية والأخلاقية، السياسية والإيديولوجية. وفي مرة سئل سؤالاً: الكثيرون من القراء يتساءلون بعد قراءة شيء من كتبك: ما الحل؟ فأجاب: "المطلوب من الكاتب أن يحول القراءة إلى تساؤلات شاملة حادة وإلى غضب عقلي وفكري ونفسي وأخلاقي وإنساني وإلى بحث عن الحلول ومطالبة بها ومحاولة لإيجادها وإصرار على البحث عنها والتفكير فيها.إن على الكاتب أي كاتب وكل كاتب، أن يكون تحريكاً، وألا يكون تمويتاً أو إقناعاً وإشباعاً وإرضاءً بما كان أو بما هو كائن أو بما سوف يكون.إن عليه أن يتحوَّل إلى رؤية دائمة شاملة حادة ناقدة غاضبة متسائلة متجاوزة، وأن يصنع في قرائه أو يحاول أن يصنع فيهم هذه الرؤية المقاتلة لكل الأشياء. والكاتب الذي لا يتحوَّل ولا يحاول أن يحول إلى مثل هذه الرؤية بل يتحول إلى إسكات للتساؤلات وإلى إقناع وإرضاء وإعجاب بما هو كائن أو بما هو كان أو بما قد يكون ليس كاتباً وإنما هو كاهن أو خادم أو معلم أو شاعر سلطان أو إله أو سوق.إنه حارس معبد أو هيكل. إنه - أي الكاتب - ليس خبيراً أو مخطط زراعة أو مصانع أو أزياء ولكنه صانع أو مخاطب عيون وعقول وطموح وضمائر وأخلاق وطاقات خامدة ومهزومة لتتحوَّل إلى رؤية وتفكير ونقد وغضب ورفض واشتراط وتطلع ومحاولات وتجاوز وارتحال طويل دائم بلا توقف أو انتظار أو رهبة أو تقوى لاهوتية أو مذهبية أو تاريخية أو سلطانية". وبهذا تشع موسيقى فلسفة القصيمي وتستعيد نفسها بأقوى مما كانت..، فمتى نخلع أقنعة الجهل الجديد الذي نعيشه في الدين والتاريخ، الإنسان والمجتمع، متى نحرق هذه الأقنعة ؟. من يكشف الوجه في المرآة ؟.