خلال الأعوام الماضية وفي رمضان على وجه التحديد أقوم بمراجعة عامة للعام المنصرم وأفكر فيما فعلته من خير وشر وأحاول دائما أن أفكر في أدوار جديدة يمكن أن أقوم بها أو يقوم بها غيري من أجل هذا المجتمع. وغالبا ما ألوم نفسي كثيرا على تقصيرها وعلى لهوها ولعبها ونسيانها لمايجب أن تقوم به فملهيات الحياة كثيرة وما نقدمه للآخرين يظل قليلا ما كبر. ولعل مرد هذا أني على قناعة أن عمل الخير ليس فقط في الصدقة رغم أن الصدقة مهمة ومؤثرة وغالبا ما اتوقف عند "الصدقة الجارية" وأعتبرها هي الصدقة الحقيقية التي يمكن أن تكون الباب الأكبر لتنمية عمل الخير لأنها صدقة تجدد نفسها وتنمى مواردها وينتفع بها عدد كبير من الناس ولأجيال كثيرة. أتذكر هنا المثل الصيني الذي يقول "بدلا من أن تعطيني سمكة علمني كيف أصيد" وهو مثل يعبر عن فكرة "الصدقة الجارية" تعبيرا دقيقا ولعلي هنا أعود للحديث الشريف الذي يؤكد على أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا إذا كان لديه ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به والذي اعتقده أن الصدقة الجارية والعلم يمكن أن يكونا هما الاساس لتنمية عمل الخير. المسألة التي أفكر فيها هي كيف يمكن أن تكون الصدقة "ممنهجة" لا مجرد "إعانة" على نفقات الحياة. كنت أتحدث عن الزكاة مع أحد أقاربي الميسوري الحال فقال إنني عادة ما اعطي جزءاً من الزكاة لبعض الاقارب وهناك لجنة مسئولة في الاسرة عن توزيع الزكاة وعبر سنوات لم أسألهم لمن يعطونها من ابناء الأسرة رغم أني لا اجد أحداً منهم يستحق الزكاة فعلا وسألتهم هذا العام فقالوا لي لقد كان لدينا عشر أسر والآن أصبحوا عشرين فضحكت منهم وقلت لهم لأول مرة أشعر بفكرة "تنمية الفقر" فبربكم كيف كان لدينا عشر أسر فقيرة في الاسرة والآن أصبحوا عشرين فبدلا من أن نقفل باب الفقر نوسعه فلم اعطهم زكاة هذا العام وقررت أن أبحث عن مصارف أخرى لها. والحقيقة أن حديث الرجل (وهو رجل أعمال ويعرف معنى التنمية والعمل المنظم الممنهج) أثار شجوني وجعلني أفكر في الصدقة التي تزيد من الفقر لأنها تصنع جماعات من الاتكاليين الذين لايريدون أن يقوموا بأي عمل وينتظرون المساعدة والاحسان ويزدادون فقرا عاما بعد عام لأنهم لم يتعلموا شيئا يحسنون صنعه. قلت في نفسي يجب أن تكون الصدقة الجارية هي جزء من التنمية وبدلا من تقديم المساعدة بشكل مباشر يجب أن تتحول إلى مساعدة من أجل "الاستقلال المادي" والتخلص من الفقر، يجب أن تكون إعانة من أجل العمل والمساهمة في بناء هذا الوطن لا العيش عالة عليه، ودون شك سوف يكون هناك دائما من هو بحاجة للمساعدة المباشرة لكن كلما تقلص هذا العدد كان الوطن بخير. إنني أشعر بحزن عميق عندما أسمع بالعدد الكبير من الأسر المحتاجة فخلال الأسبوعين الفائتين نقلت لي مشاهد يتفطر لها القلب وحزني ليس لأنه بيننا فقراء فهذا أمر طبيعي ولابد أن يكون في المجتمع أغنياء وفقراء ومتوسطو الحال لكن حزنت كثيرا لأنه لايوجد لدينا برنامج وطني لتنمية الفقراء وكل المحاولات فردية وبعضها مؤسساتي لكنها لاتستطيع تحقيق التأثير المطلوب في غياب العمل الوطني الشامل. محاربة الفقر ليست فقط من خلال تقديم المساعدة المباشرة لأنه عادة مايكون المحتاج غير قادر على الكسب ويفتقر للمهارات أو لرأس المال الذي يعينه على البدء في عمل يكسب منه قوته وقوت ابنائه واعتقد هنا أن "الصدقة الجارية" يمكن أن تكون هي الحل التي تصنع التغيير وتنمي الخير في مجتمعنا خصوصا عندما تكون صدقة على المستوى الوطني أي أنه عندما يوضع مشروع وطني لمحاربة الفقر يعتمد على الصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به ولا اعتقد أن هناك أحداً يمكن أن يتردد أن يساهم في هذا المشروع ولو باليسير. كنت أقول دائما أنه رغم التحولات الأخلاقية الكبيرة التي يعيشها مجتمعنا في الوقت الحالي إلا أنه يمتلك مقومات "عمل الخير" فالناس مازالت تبذل ومازالت تريد المساهمة في الاصلاح وتتمنى أن ترى المجتمع أحسن حالا، لكنها تحتاج أن تتعلم كيف تساهم في هذا الاصلاح وفي تنمية الخير. الاجتهادات الفردية الكثيرة تعبر عن هذه الرغبة لكنها لاتصنع التأثير المطلوب لذلك فإن "منهجة" الصدقة الجارية سوف يكون له تأثير كبير على بناء مجتمع متكافل يستطيع أن يجتث الفقر من منابعه. كنت أقول لأحد الزملاء إننا نصنع الفقراء من حيث لانعلم إما بمساعدتهم على الكسب المجاني دون العمل أو بتربية أبنائنا على الدعة والراحة وعدم احترام قيمة العمل والسعي من أجل الكسب من عمل أيديهم. ربما تكون الصدقة الجارية هي تربية الابناء على الاجتهاد وخوض غمار الحياة بأنفسهم لا أن نخوضها نيابة عنهم. لقد اكتشفت مؤخرا (ولا اعلم لماذا هذا الاكتشاف تأخر كثيرا) أن هناك عدداً كبيراً من الشباب السعودي الذي لم يكمل تعليمه ولايحسن صنع أي شيء ولا يعرف كيف يقوم بأي عمل بشكل جيد، صرت أتخيل هؤلاء الشباب وكم من أسرة فقيرة سوف يضيفونها لفقرائنا في المستقبل وقلت في نفسي لنبدأ بهؤلاء ولنجفف منابع الفقر ولا يوجد افظل من العلم النافع الذي سيكون عملا متصلا ومستمرا للإنسان عبر الاجيال لأن إصلاح فرد سينعكس على كل الافراد الذين سيعيلهم وهذا دون شك من الاعمال المتصلة التي يثاب عليها الانسان. لا أريد أن ابسط الأمور أكثر من اللازم لكننا نعرف أين يقع الخلل ونعرف أن ما نقدمه من زكاة ومن صدقة لن يغلق باب الفقر لأن الزكاة والصدقة بحاجة إلى استثمار حقيقي يجفف الفقر ويفتح باب التنمية، فنحن لانريد من يجلس في بيته ينتظر الصدقة وهو قادر على العمل فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ولانريد أن نزيد عدد الضعفاء بيننا. ربما نحتاج أن نتعلم من المؤسسات الخيرية الكبرى التي لاتقدم المعونة فقط بل تنمي المجتمعات الفقيرة وتعلمها. بالنسبة لي اعتقد أن الفقير والمحتاج ينتظر منا أن نعلمه كيف يكون عضوا صالحا في المجتمع ومعتمدا على نفسة لا أن نسد حاجته اليوم ليحتاج في الغد.