بين انواع التحديات في الاقطار العربية، تبرز المشكلة الأكثر حدة هي تلك التي تواجه الدائرة المحددة المؤلفة من لبنان والاردن وفلسطين وسوريا ومصر. فهذه الدائرة هي دائرة الصراع على الوجود منذ حلمت الصهيونية ان تكون فلسطين وطناً لها. وهو حلم قُيّض له ان يكون راهناً وحاداً منذ اواخر ايام الدولة العثمانية، واصبح متحكماً بالاحداث منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين. فقد تركز العمل الصهيوني على محاولة تقاسم فلسطين مع الانتداب البريطاني، ثم على المطالبة بكل ما كان تحت وصاية الانتداب من ارض فلسطين... وهو كلها. وقد اشتبك الصهاينة عام 1948مع الفلسطينيين اساساً، ثم مع اللبنانيين أيضاً والسوريين والعراقيين والمصريين والأردنيين والعرب بوجه عام. وانضم قسم من الفلسطينيين الى الاردن، فنشأت من الاثنين صيغة جديدة للدولة العربية، كما نشأت علاقة خاصة لغزة ومحيطها مع مصر. وهكذا، وعبر اشكال مختلفة، وجد الفلسطينيون والاردنيون والمصريون والاسرائيليون انفسهم في دائرة رباعية لها ظروفها الخاصة وعلاقاتها القانونية الخاصة بوراثة دولة الانتداب البريطاني في فلسطين. ان لكل واحد من هؤلاء الاربعة، ما يعتبره حقه القومي والوطني والقانوني على ارض فلسطين التي حكمها البريطانيون في يوم من الايام. ومع ان الارض بالمعنى القانوني هي اولاً لمن كان مواطناً فلسطينياً على ارض فلسطين، الا ان تطور الاوضاع اعطى للشرق اردني والمصري خاصة، شراكة قانونية ووضعية حية موروثة من دولة الانتداب. عملياً، فرضت اسرائيل على الدول تصنيف المشاكل مع الفلسطينيين والاردنيين والمصريين على انها صنف مختلف عن المشاكل مع سوريا ولبنان، وكذلك عن المشاكل مع صنف ثالث من العرب، هو الصنف البعيد جغرافياً عن اسرائيل. الصنف الأول كما ارادت ان تقول، هو صنف الصراع على الوجود، ومن هذا المنطلق اهتمت بالدعم الدولي لاتفاقية كامب ديفيد، باعتبارها حلاً للمشكلة مع مصر. ثم اتفاقية وادي عربة باعتبارها حلاً لمشكلة الخلاف مع الاردن، ثم اتفاقية اوسلو ومحاولات تعزيزها باتفاقيات جديدة، آخرها رؤية جورج بوش لاقامة دولتين مستقلتين. فيما يتعلق بالصراع مع سوريا ولبنان، فقد اشاعت اسرائيل في الاوساط الدولية انه صراع حدودي، لا وجودي كالخلاف مع الآخرين. واذا كانت تتأخر الآن في تطبيق قرارات الاممالمتحدة بشأن احتلالها للارض في مزارع شبعا اللبنانية وفي الجولان السوري، فذلك لأن الامر لا يعدو ان يكون خلافاً حدودياً، كما تحاول ان توحي، وهناك مئات، بل آلاف من الخلافات الحدودية القائمة بين الدول في كل قارات العالم، ومن طبيعتها انها "تستطيع ان تنتظر". اما الصنف الثالث من العرب، فالصراع معه - أو السجال على الاصح - كما تصوره اسرائيل، ثقافي اقتصادي، اي مجرد اختلاف بالقيم الدينية والاجتماعية وطرق الحياة، أو محض مصالح اقتصادية واختلاف حول طريقة صرف الاموال وكيف يمكن ان تكون اسلم وانفع للجميع. "الامن قبل السلام"، هذا المفهوم الذي حاولت اسرائيل تعميمه في كل الجبهات، ولاسيما مع السلطة الفلسطينية ومع الفلسطينيين، استعمل لأول مرة في سياق الحديث عن سوريا ولبنان. وبوحي منه اقدمت اسرائيل على "مجزرة قانا" التي ذهب ضحيتها عشرات من العائلات اللبنانية، وما تلاها من مجازر ومحاولات اجتياح، أو محاولات تسجيل انتصارات سريعة. هل صحيح ان الحالة القائمة بين اسرائيل ولبنان، كما تقدمها اسرائيل بخبث، هي من صنف الخلافات الحدودية التي تستطيع الانتظار؟ وهل يستطيع منصف انكار ان لبنان يعاني منذ سنوات، جراء وجود اسرائيل على ارضه، ما لم يعانه شعب من الشعوب العربية؟ وقد تغيرت طبيعة حياته ومجمل اوضاعه بسبب هذا الاصرار الاسرائيلي على انهاك ارضه واللعب في تكوينه. ليس عدم الموت هو الحياة بعينها. والمطلوب للبنان الآن عربياً ودولياً هو الحياة، كل الحياة، وليس مجرد عدم الموت. ولعل لبنان من الدول التي اخذت الكثير من تفكير اقوياء العالم منذ ان كانت كياناً، وقبل ان تصبح وطناً ودولاً. والسؤال هل يكون فعلاً كما اريد له ان يكون، دولة منافسة في المنطقة، لا دولة مشاكسة ولا دولة بصم وتبعية؟ دخلت فرنسا في اواخر الحرب العالمية الاولى المعروفة حالياً بدولتي سوريا ولبنان، وكأنها مسكونة بهاجس انشاء الدول. فسرعان ما اصدرت سلسلة قرارات، قرار بإنشاء دولة حلب، وآخر بإنشاء دولة جبل الدروز، وثالث بإنشاء دولة العلويين، ورابع بدولة دمشق. وبالفعل قامت انذاك في المنطقة المعروفة اليوم بالجمهورية السورية، عدة دول قبل ان تعود فرنسا الى جمع ما قسمته، فتعلن سوريا بواقعها الجغرافي الحالي. اما في لبنان، فقد كان تصرفها معاكساً ومنذ اللحظة الاولى هو الاعقل والاوسع افقاً، فأعلنت بلسان المفوض السامي الجنرال غورو، دولة لبنان الكبير التي تشمل لبنان بالشكل الذي نعرفه اليوم، ساحلاً وجبلاً وبقاعاً وبيروت العاصمة. وكان واضحاً منذ البدء ان لبنان ما رسم بجغرافيته السياسية الا ليعيش. إن حب لبنان لا بد أن يصبح جزءاً أساسياً من موقف كل عربي وكل حكومة عربية، وهذا الحب ينبغي ألا يقتصر على رجل بالذات في البلد، ولا على تيار سياسي أو طاقم حاكم أو غير حاكم، بل يشمل ما هو دائم ومستمر ومغروس في تراث هذا البلد، فالموضوع هو انتماؤنا لحضارة هذا العالم، لاقتصاد هذا العالم، للطريقة التي يتشكل منها عقل هذا العالم وحياته. ان الانعزال عن العالم، بالمعنى الذي خشي منه امثال محمد عبده وطه حسين وجرجي زيدان وامين الريحاني واعلام المهاجر اللبنانية والشوام في مصر، ومنهم فلسطينيون، يجب أن تبرأ منه كل نفس عربية وكل سياسة عربية، فالقرار الاساسي يجب ان يتمثل بالحرص على البقاء في هذا العالم. اما التعبد غير المحدود لثقافة الاعجاب بالعالم الثالث، والمراهنة عليها دون تحديد وتدقيق، فإنه يؤذي المشروع الحضاري لهذه الامة، وقد رأينا ما حصل مؤخراً في ماليزيا وغيرها. كان كل نظام عربي وما يزال، يقيس نفسه بنظام عربي آخر، فيوحي لنفسه بالرضى عن الذات، وكثيراً ما يجد دلائل تساعده على الاطمئنان لمسيرته: أنا افضل من النظام العربي الآخر، اذن فأنا النظام الصحيح والمطلوب. هل يكفي ان يكون هناك عربي افضل من عربي آخر، ليكون في خير وقوة وسلام وأمان؟ خصوصاً خلال مراحل وظروف تتسع لاحتمال الحرب بين العرب واسرائيل، وغير اسرائيل أيضاً بالنسبة لبعض الدول العربية؟ ان كل ما اخذناه من الثورية ومن الاعتدال، القول بأفضلية نظام عربي على آخر، ورفضنا اعتبار ان تجاوز الخصم أو العدو في القدرة هو الاساس، فضاعت منا فرص كثيرة وامكانات تطوير حقيقي للاوضاع العربية. كان التساؤل عن سر غلبة الغرب على الدولة العثمانية، من اسس نهوض العروبة في البلاد العربية، بل كان أيضاً اساساً من أسس قيام الكمالية (او الاتاتوركية) في تركيا بالذات. فالعروبة وكذلك الكمالية، نشأتا في ظروف واحدة، وتحت وطأة السؤال عن سر الانهزام امام الغرب وحضارته، ولكن بفارق كبير هو ان العروبة لم تتنصل من الاسلام ولم تتخذ موقفاً قطعياً وسلبياً منه، بينما جعلت الكمالية هذا التنصل اساساً في نهجها. والسبب هو ان الاسلام نما في بلاد العرب، وكان القرآن الذي الهمه خطواته بلغة العرب، والاسلام تطور وتوسع وهو يصنع الحياة العربية، والعرب يتفاعلون معه منذ انبثاقه. كان ولا يزال شيئاً لا يمكن الفصل بينه وبين التراث العربي والنظرة الى الحياة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فان العلاقة بين العرب والاسلام اكثر ألفة من ان يكون العربي متطرفاً أو اطلاقياً في التعامل معه، فإما أن يقبله بشكل منغلق ومتعصب، بموجب تفسير حرفي مطلق، أو يتركه كلياً. ولعل الفارق بين العربي وغير العربي هو ان التركي والافغاني والايراني والباكستاني هو بوجه عام، اما آخذ بالاسلام على نحو شديد التطرف، أو تارك له بتطرف، أو في احسن الاحوال مزدوج الشخصية، بل معذب عبرها في التعامل مع الاسلام. بينما النموذج الغالب في التعاطي العربي مع الاسلام هو الطبيعة والالفة والنظرة العادلة المعتدلة، بل ان غير المسلم في البلاد العربية - المسيحي تحديداً - لا ينظر الى الاسلام الا على انه ظاهرة ملازمة لتاريخه، وهي ظاهرة يتعامل معها عقلياً وقلبياً تعامل قبول واحترام وحب. فالعروبة تتضمن في ذاتها ودون افتعال، موقفاً ايجابياً منفتحاً تجاه الاسلام، بينما لا تتضمن التركية أو غيرها في الاغلب، مثل هذا الموقف عند التركي المتغرّب. ان من خصائص البلاد العربية ومن خصائص غناها الحضاري، ان جزءاً كبيراً فيها من الأمة هو مسيحي، والجزء المسيحي من الأمة العربية هو جزء كبير من حيث العدد، وهام واصيل وقديم طيلة التاريخ العربي. وهناك فروع كاملة من الحضارة العربية قامت أساساً على اكتاف المسيحيين العرب، وليس هناك حال مشابه أو قريب في اية بلاد اخرى ذات اكثرية اسلامية. وبالعودة الى التحديات التي تواجهنا اليوم، لا بد من اضافة ظاهرة الحصارت الذاتية، ويجب ان تنصرف الجهود العربية في الوقت الحاضر، الى المعالجة الحكيمة لهذه الظاهرة، نظراً لخطرها البنيوي على قضيتنا، فلقد عشنا ونعيش اسرى انواع من الحصار الذاتي كانت وما تزال الأكثر فتكاً بمصالحنا وامانينا من كل ما تعانيه امتنا من انواع الحصار الخارجي الظالم. النوع الأول من هذا الحصار الذاتي هو ازمة الوحدة الوطنية في بعض بلداننا الناتجة اما عن الانقسامات الطائفية والمذهبية، واما عن الانقسامات العنصرية، والنوع الثاني من الحصار هو الخلاف المستعصي بين جار عربي وجار عربي آخر. والى هذه التحديات، يبقى للبنان الخارج من ازمة والغارق في أخرى، التحدي الأكبر في ألا يتخلى عنه العرب... وألا تستفرد به اسرائيل حرباً أو سلاماً منفرداً