في تاريخ العلاقات اللبنانية السورية كلمة بشعة تعود إلى زمن بعيد اسمها القطيعة جربها البلدان الشقيقان ودفعا ثمنها غالياً حتى دار الزمن، فاكتملت هنا وهناك صحوة عنوانها: قل لي كيف تفهم الاخ الجار وعلاقتك معه، اقل لك اي سوري او اي لبناني انت. وسمي ساسة الطرفين آنذاك بالرعيل الاول الذي يجب الاقتداء به ليكون على جانبي الحدود عقل سياسي يوفق ولا يباعد وينتج كل شيء، ما عدا الخلاف الذي لا يفيد منه الا الاعداء. وقد احسن العماد سليمان بهذه الزيارة التي اعطت لبنان وسوريا معاً القاً سياسياً كادت الايام تسلبه من الطرفين، فجاءت الزيارة السليمانية تشهد لصاحبها بواحد من اهم اسرار السياسة وهو فن بداية العهود، وقد مارسه الجنرال مع فرنسا الصديقة البارة، وها هو يمارسه مع سوريا الاخت والجارة. ولا بد من القول ان رئيس الحكومة فؤاد السنيورة كان قد قام هو الآخر بمثل هذه الزيارة، ولكنها كانت على ما يبدو قبل الاوان، فلم تعط النتائج في حينها. في مطالع العهود، ونحن اليوم في لبنان في احدها، كثيراً ما يتشكل زخم انتاجي في الدولة والمجتمع من النوع الذي اذا حسن استغلاله، فمردوده على المسيرة الوطنية خير كثير. وكل الدلائل تدل على التقاط كل من رئيسي الدولة والحكومة روح اللحظة التاريخية المؤاتية لمسيرة الدولة. فالتوجهات الرئاسية، كما البيان الوزاري لرئيس الحكومة، يؤذنان كلاهما بتطلعات متفائلة لمشروع حكم يطل هنا وهناك باتجاه قيام دولة من نوع واعد. وكانت قد تراءت في ما عرف في الماضي بالشهابية، فرصة مشابهة لم تعط مع الاسف كل المطلوب منها، وذلك عكس المؤشرات الايجابية المشجعة اليوم من نوع الكلام الجديد الذي يسمع من المسؤولين، فيوحي بأن لبنان الدولة والمجتمع قد تطور مع التجارب الى امام، والزمن يأخذ دوره بخطوات اثبت وثمار مرجو لها ان تكون انضج. تفسد السمكة او تطيب من رأسها، مثل شعبي رائج في كل بلد، ابتدعته اتكالية الشعوب على حكامها، ميل الناس البسطاء المسبق الى تبرئة الذات من اخطاء يمكن ان تقع وتنسب اليهم، او يكونوا فعلاً قد وقعوا فيها، فتسببت لدولتهم ووطنهم بسوء السمعة والمصير وهم لا يعلمون، بل لعلها حكمة من التجارب لافتة الى اهمية الخطأ والصواب على مستوى القمة، حيث يشكل الفارق في الاداء والخيارات ومعالجة المشكلات العامة بين حاكم وآخر، سبباً لشقاء او هناء شعب بكامله. وهذا ما ينطبق اليوم اكثر ما يكون الانطباق على الحالة اللبنانية القائمة، حيث يتجه شعب بكامله، محروم طويلاً من الحياة الطبيعية، الى نوع من الحياة في مقبل الايام، مبني او يفترض ان يكون كذلك على مفاهيم وسلوكات وخيارات وطريقة اداء يمارسها حكامه المؤمنون. ان اللبناني اليوم، بحكم حاجاته ومخاوفه، مضطر اضطراراً لأن يزن قدرات الرجال من صناع مصيره، ويتعامل معهم بتفاؤل على هذا الاساس. وقد قُيّض للبنان الحالي، بتدبير يكاد يكون من الاقدار، منبثق ايضاً من صلب تاريخه السياسي، ان يكون اول ما يطلبه، فيجده على قمة السلطة، هو قائد جيشه المؤمل المجرب العماد ميشال سليمان، الذي ما كادت تتجه اليه الانظار، حتى تسمرت عليه دون غيره من الرجال. وقد قالت حكمة الحكماء منذ القدم، ان اللائق بالاولوية في السلطة، ان لم يكن موجوداً، فمن الضروري اختراعه. فكيف بالامر وهو عندنا في لبنان متجسد في شخص العماد حقيقة من لحم ودم، بل ومعه سجل من المآثر والتصدي الشجاع للمستهينين بكرامة الآمنين من لبنانيين وغير لبنانيين. كان تنصيب العماد الرئيس، الحجر الاول في عملية استرداد لبنان، لا لسلطته ومؤسساته فقط، بل لذاته الوطنية أيضاً، وكم من مرة كانت فيها الخطوة الاولى على طريق بناء الاوطان هي راسمة الطريق، وضامنة الحسم في معركة المصير. بعد انتخاب الرئيس سليمان، جاء تكليف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بتأليف الحكومة، بمثابة اعطاء القوس لباريه والخبز للخباز باللغة الدارجة، اذ ما كان يمكن اشعار اللبنانيين بأن لبنان قد قام وحقاً قام، الا بقيام الحكومة الشرعية للبنان الرسمي المعوم من قاع الازمات والمكتمل الاوصاف الدستورية والعملية، ووداعاً وداعاً بعد تزكية حكومة السنيورة لكل حديث عن عدم وجود لبنان الكيان والدولة بقرينة غياب حكومة منذورة لمهمة الحكم. واذا كانت كثرة اللبنانيين الكاثرة المنشغلة الآن بعرس قيامة لبنان، والمحبة بالاصل لرئيس الحكومة، قد غفرت له ما فعل بتأليفها، على انها كما قيل افضل من الفراغ، فالواقع انها جاءت مجردة حتى السقام من اي احساس بتاريخية المرحلة. كان تأليف الحكومة بالطريقة العجولة، وببعض الاسماء التي تشكلت منها، دون ما كان السنيورة يوحيه للناس عن نفسه وبحق وجدارة، بأنه رجل دولة بالمعنى المطلوب والرفيع. وقد كان رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون شرشل، وهو صاحب دولة ايضاً، يقول: قل لي من هم وزراؤك، اقل لك اي نوع من الرؤساء هو انت!. وكم من مرة رفعت نوعية الاسماء والاشخاص المختارة من منزلة رئيس حكومة اختارها، اكثر مما فعلت جميع الانجازات التي قامت بها حكومته من قبل ومن بعد، مهما طال عمرها. ولقد قال منديس فرانس، رئيس الحكومة الفرنسية الشهير: قل لي من تعين وزيراً معك في الحكومة، اقل لك اي رئيس حكومة هو انت!. ان الناس في السياسة عاشقة اسماء، ورجل الدولة الحق هو من يعرف كيف يجيش مشاعر الناس نحوه بإشعاعات الاسماء التي يختار، بل تكاد تكون السياسة علم التعيين او فن الاختيار، قبل اي شيء آخر. فاذا كان الدونجوان هو من يعرف كيف يحيط نفسه بالحسناوات، فان القطب السياسي او الزعيم المكرس هو من يعرف كيف يحيط نفسه بالنجوم السياسية ذات البريق، لا سيما اذا تذكر صاحب الموقع والقرار انه يجلس الآن مرتاحاً على الكرسي نفسها التي جلس عليها مؤسسو لبنان المستقل. وقد طلب الشيخ بشارة الخوري من رياض الصلح ان يعين في واحدة من حكوماته زيداً من الناس استساغته ذائقة الرئيس الاول، فاجابه ان دوره في التوزير لم يأت بعد، وهو لن يأتي لا معي ولا مع عبد الحميد كرامي، فنحن من مدرسة ترى في المعية الوزراء المشاركين في الحكومة قوة اضافية لرئيسها، بل تعزيزاً جدياً للسلطة التنفيذية، بل وللديموقراطية كنظام. وهذا ما ثبتت صحته في واقعة تعديل الدستور في تشرين الثاني عام 1943، حيث اضطرت فرنسا لاعتقال جميع الوزراء الذين كانوا قد دعموا القرار بالغاء صلاحيات المفوض السامي الفرنسي، ولم ينج اذذاك الا الامير مجيد ارسلان، الذي ذهب بوسائله الخاصة الى بشامون، ليقود من هناك المعركة ضد القرار الفرنسي العدواني باعتقال الزعماء وارسالهم الى راشيا. والواقع انه لو كان الرئيس فؤاد السنيورة، وهو رجل الدولة المؤهل، قد استطاع ان يحشد في حكومته شخصيات ذات وهج شعبي حقيقي في البلاد، لكان عزز سلطة الدولة اكثر، وهي المستفيدة اصلاً بعلمه وقوة مراسه ونزاهته وسعة صلاته العربية والعالمية وصفات رجل الدولة فيه، فهو بلا شك من رجالات لبنان الذين لعبوا اكبر الادوار مع الرعيل العربي والمدني الذي جاء مع المرحوم الرئيس الحريري واستمر في تأدية الدور الوطني الكبير مع الرئيس السنيورة. هذا والسنيورة هو الرئيس المثقف، الذي جاء من صيدا العربية القومية، ومن عالم النوادي الثقافية القومية، ابناً باراً لقيمها ولقوميتها، وفياً للوطنية اللبنانية الصادقة السمحاء، مجدداً في اطار الاصالة، باراً بتراث مدينته صيدا التي كانت دائماً سباقة بأدوارها العربية. كان المرجو من الرئيس السنيورة تأليف حكومة من النوع الذي يكبر به رئيسها، ولكنه لم يوفق ، فألف حكومة تأخذ منه الكثير ولا تعطيه شيئاً. ولولا السداد في خطى وتصرفات الرئيس الاول العماد سليمان، والامل والثقة في شخص السنيورة ومبادئه وموقعه، لكانت نوعية الخيارات الوزارية لرئيس الحكومة قد اصابت اطلالة العهد الجديد بخدش مؤذ، وانقصت من مواهب رئيس الحكومة الواضحة الكثيرة، موهبة اختيار الزملاء في حكومة انتظرتها البلاد بأمل. كان الخوف عند بعض اللبنانيين على اشده، من ان تكون العين السياسية الحولاء احياناً قد نجحت في توجيه الناس الى غير مكامن الداء والشفاء، ولكن لما كان هناك الف طريق لارتكاب الخطأ وطريق واحد للاهتداء الى الصواب، استقر بسرعة اسم الجنرال سليمان ومعه الرئيس السنيورة، وعداً صادقاً من الكتاب والمعلقين لجمهور القراء، ليس لهم فيه من الفضل، الا اعلان ما ومن كانت تراه التقديرات والآمال مقبلاً بالضرورة على حصان ابيض لخير لبنان. انه عهد جديد يستقبله الوطن اللبناني برئاسة سليمان، لن يكون بصورة اكيدة شهابية جديدة، على كون الشهابية لم تكن سيئة، كما صورها اخصامها. فالرئيس سليمان ابن عصر آخر واكثر صلة بالناس وباللبنانية والعروبة والسياسة، مما كان شهاب، على ايجابية ما كانه الرئيس الكبير في مجالات متعددة. ولكن لبنان كان وما زال وطناً متطوراً، لا تأسره تجربة دون أخرى، ولا يعطي قلبه بالكامل الا للحاضر والمستقبل.