لا يخفى على الذين ناقشوا قضايا فقهية باسم الاقتصاد الإسلامي أن الفقه ليس مخصصا بنوع محدد من التصرفات العملية. ومن ثم فأحكام المعاملات المالية والتجارية والتصرفات المالية للأفراد وأحكام البيع والإجارة والضرائب والسوق والتأمين وتمويل البنوك داخلة قطعا في اختصاص الفقه، ويفتي فيها الفقهاء ومجامع الفقه والهيئات الفقهية. وما كتب قديما في كتب مستقلة حول أحكام موضوعات تعد في التعبير المعاصر اقتصادية من أمثال أحكام وآداب الكسب والإنفاق وأحكام المالية العامة والتصرف بالمال العام والخراج وأحكام السوق هي في الحقيقة فقه، وهذا أمر واضح صريح، وليس محل اجتهاد واختلاف رأي، رغم إهمالها أو قلة بحثها في كتب الفقه الشاملة كالمغني، وكان المفترض أن تتضمن هذه الكتب تلك الموضوعات. ومن ثم لنا أن نتعجب من تسميتهم أبحاث هذا الفقه باسم شقه الأول عبارة عن ترجمة لمصطلح معناه نبت في الغرب. وخلاف الاعتراض الجوهري السابق، هناك اعتراض آخر. إضافة أو زيادة كلمة إسلامي في سياق الحديث عن تخصص أو علم، لا تقلب التخصص أو العلم إلى علم آخر موجود من قبل، وله اسمه المعروف به، بل تعني أن ذلك التخصص أو العلم المعهود في الذهن موصوف بأنه إسلامي، فمثلا، قولنا طب إسلامي تعني أن الطب بالمفهوم الذي نعرفه أو تعهده أذهاننا (وهو باختصار علاج الجسم والنفس، انظر مثلا لسان العرب)، لكن بمنهج أو طريقة علاج مصدرها الوحي وليس الكون، ولا يصلح بتاتا أن نبدأ بتعريف الطب الإسلامي بوضع تعريف وفهم آخر لما تدل عليه كلمة طب، كأن نقول بأنه المقصود هو الأحكام الشرعية التي تتناول أوضاعا متعلقة بالصحة والمرض. بمعنى لا يستسيغ أن يؤلف فقيه كتابا باسم الطب الإسلامي، ويكون تركيز الكتاب على الأحكام الشرعية في حالات المرض والإعاقة والعجز البدني، أو الأوضاع البدنية التي لها أحكامها الشرعية الخاصة بها كالحيض أو التبرع بالأعضاء ونقل الدم أو مسؤوليات الطبيب الشرعية ونحو ذلك. وبالمثل، إذا جاءت عبارة اقتصاد إسلامي في سياق الحديث عن علم أو تخصص، فالمفروض أن يكون المعنى علم أو تخصص الاقتصاد المعهود بالذهن الموصوف بأنه إسلامي. وهذا المعهود في الذهن، أعني علم الاقتصاد ليس من شأنه أصلا دراسة الأحكام، بغض النظر عن مصدرها، وموافقتها أو مخالفتها للشريعة. ولذا إذا قلنا اقتصاد إسلامي وقصدنا أحكام الفقه للمعاملات التي تدخل في دائرة النشاط الاقتصادي، فهذا يسبب التباس الأمر على الناس، بين طبيعة كلا العلمين الفقه والاقتصاد، وهذا يخالف الهدف من وجود المصطلحات. طالما أن عندنا فقه، فلماذا نضع تسميه أخرى تسبب لبسا وإشكالا؟ قد يرد عليَّ بأنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكني أرى أن هذه العبارة ليست على إطلاقها. فحيث انتشر استعمال مصطلح، واستقرت دلالته في الأذهان (هذا لا ينفي وجود خلافات في التفاصيل)، فإن صرفه إلى غير هذا يسبب لبسا وتشويشا في الأذهان. مثلا، لا يستساغ أن يطلق أحدهم مسمى تفسير على كتاب يشرح الحديث، لأنه استقر في الأذهان أن كلمة تفسير تطلق على تفسير كتاب الله، وليس الحديث النبوي. كما لا يستساغ أن يعتبر المتخصص في اقتصاد المالية العامة نفسه متخصصا في القانون المالي، والعكس كذلك. ومن جهة أخرى، إننا لا نضيف كلمة إسلامي إلى فقه، ولذا فجوهر التسمية في اقتصاد إسلامي ينصب على كلمة اقتصاد، وليس على كلمة إسلامي. ولكن كلمة "اقتصاد" ليس لها معنى أو معاني اصطلاحية في المجتمعات العربية طيلة القرون التي سبقت عصر الثورة الصناعية وتطور العلوم الحديثة. وأئمة الأمة السابقون لم يسموا القضايا الفقهية المتعلقة بالاقتصاد (حسب التعبير المعاصر) الموجودة في عهدهم، لم يسموها الاقتصاد (أو الاقتصاد الإسلامي). ولذا فإنه ينبغي فهم المعنى الاصطلاحي لكلمة "اقتصاد" من البيئة التي نبت فيها المصطلح، وهذه قضية غفل عنها أكثرية الكاتبين في الاقتصاد الإسلامي، رغم أنها جوهرية. والذين يرون أن علم الاقتصاد يهتم ببحث أحكام المعاملات الاقتصادية أي أحكام ما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته، مخطئون خطأ صريحا، لأن أحكام المعاملات الاقتصادية (في التشريعات الوضعية) لا تبحث في علم الاقتصاد ولكن في القانون، فيما للسلطة علاقة به، كالقانون المدني والقانون التجاري وقانون العمل وغيرها، بغض النظر عن كونها تسن بمعزل عن الشريعة أو لا. وأما المسائل التي لها علاقة بآداب السلوك الفردي وأحكامه فهي لا تدرس أصلا في علم الاقتصاد، ويمكن بحثها في الفقه ويمكن إدراجها ضمن علم مستقل يعنى بالآداب والأخلاق، بحيث تدخل فيه آداب أعمال متنوعة كتناول الطعام والسفر والنوم واللباس والتوسط في الإنفاق وما إلى ذلك. ولو كان علم الاقتصاد يبحث في أحكام وتشريعات المعاملات المتعلقة بالمال والاقتصاد، فإنه حينئذ لغو لا فائدة منه أصلا، لوجود الفقه و/أو القانون وكلاهما أسبق من علم الاقتصاد. الخلاصة أن من الخطأ الصريح التعبير عن الفقه المالي والاقتصادي بعلم الاقتصاد أو الاقتصاد الإسلامي، ومن الواجب التنبيه على هذا الخطأ وتصحيحه. ويبقى النقاش فيما إذا كان هناك علم اقتصاد إسلامي، وفق معنى وماهية علم الاقتصاد، ولا معنى للنقاش بدون هذا. * بكالوريوس في الشريعة ودكتوراه في الاقتصاد