ربما تكون الفرصة سانحة في الصيف كي أتحدث عن المدينة فهي الوعاء الأول للسياحة والترفيه وممارسة الحياة المدينية، فالمدينة تجبرنا بكل تأكيد كي نطوع أسلوب حياتنا حسب ما تتيحه لنا من مساحات حضرية نتعايش معها وتتشكل حياتنا اليومية حسبها، فمهما كنا مختلفين عندما نزور مدينة مثل باريس لابد أن تجبرنا شخصيتها الحضرية على ممارسة نفس نمط الحياة اليومية، فمن هو الذي لايرغب في المشي في "الشانزليزييه" ومن هو الذي لم يقف عند ساحة الكونكورد ولم يزر الحي اللاتيني (سان ميشيل) وبرج ايفيل ومتحف اللوفر ومن هو الذي لم يتوقف كثيرا عند المقاهي المتناثرة على (الشانز)، شخصية المدينة الحضرية تصنع شخصيتها السياحية، على أن كثيراً من الناس لا يعرفون أن باريس "مدينة النور" في القرن التاسع عشر صنعت فكرة "المدينة الرأسمالية" المعاصرة فهي المدينة الأولى التي تبنت أسلوباً تخطيطياً حول المدينة إلى فضاء ترفيهي "برجوازي" ممتع بصرف النظر عن الحياة المدينية الحقيقية لسكانها، ومكن رجال السياسة التعامل معها كمشروع سياسي ورأسمالي في نفس الوقت، فقد كانت بدايات الهيمنة السياسية الكاملة على المدينة من باريس فتحولت بذلك المدينة من مكان لممارسة الحياة بهدوء إلى ممارسة الحياة الصاخبة. يبدو أن فهم المدينة من خلال النسيج المادي لها يمثل توجها فكريا لدى كثير من المهتمين بتخطيط المدينة فها هو (هوسمان) عمدة باريس ومخططها في الفترة ما بين 1853و1882م يقول "أن المدينة هي المكان الطبيعي لتأسيس المجتمع البرجوازي الحديث". فقد أصبحت الطبقة البرجوازية في عهده في ذروة قوتها وهذا ما أعطاها الفرصة لكي تمنح نفسها كل أدوات السيطرة على المدينة والتحكم بها. وفكرة التحكم هنا هي فكرة "إدارية" بحتة فلأول مرة أصبح هناك حاجة لإدارة المدينة بشكل شمولي وتوجيهها حسب خطط اقتصادية واجتماعية محددة ولأول مرة تتاح للحاكم (وأقصد هنا نابليون الثالث الذي عمل هوسمان كعمدة لباريس في عهده) خارطة يحدد كما يشاء كيف يمكن أن تكون مدينة باريس في المستقبل وهو ما حدث بالفعل عندما اتفقت إرادة السياسي (نابليون الثالث) مع إرادة المخطط (هوسمان). يبدو أن مسألة السيطرة على المدينة كانت من أهم إستراتيجيات (عمدة المدينة) فقد أصبحت باريس من أهم المدن الصناعية في العالم بين عامي 1835و1848م وأصبح هناك قرابة ال 400000الف (أربعمئة ألف) عامل في حين أن عدد السكان لايزيد عن مليون نسمة وهو الأمر الذي جعل من تأكيد الفكر البرجوازي الذي يقسم المدينة إلى مساحات طبقية أحد أهم مولدات المدينة الرأسمالية التي شكلها (هوسمان) في باريس) والذي اعتمد كثيرا على رؤوس الأموال الكبيرة التي كانت ترتكز على مزاوجة البنوك مع المصانع لاستحداث شركات تعهد كبرى يمكنها إدارة وتنفيذ الأشغال الكبيرة التي صنع بها (الحاكم) باريس المعاصرة. يجب أن نؤكد هنا أن مسألة "إدارة المدينة" كانت مسألة رأسمالية بحتة فقد أتيحت لنابليون الثالث خارطة تمنحه "إدارة باريس" وتحويلها إلى مدينة للبهجة حتى لو كان ذلك على حساب الحياة المدينية الحقيقية في أعماق الأحياء السكنية الكلاسيكية، يقول (أميل زولا) "باتوا العشاق يحضنون الحب لباريس الجديدة. فكان أهل الريف كما سائر السياح يعودون إلى ديارهم بعد زيارة باريس مندهشين وفرحين" فقد كان من الواضح أن الهدف في النهاية هو تحويل هذه المدينة إلى عنصر صانع للبهجة وبالتالي محرك لصناعة السياحة، وهو ما حدث فعلا فقد أصبحت باريس قبلة العالم في القرن التاسع عشر ويندر أن تمر علينا شخصية مهمة سياسية أو فكرية لم تمر بهذه المدينة. ربما تثيرنا كثيراً طرقات باريس وهي إثارة يصنعها نظام توزيع قطع الأراضي الموحد وتماثل واجهات المباني فيها، والحقيقة أن بناء شخصية مدينة عظيمة مثل باريس الحديثة بدأ مع عمدتها في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد أعاد هوسمان تخطيط باريس من جديد بعد أن كانت قبل ذلك مجرد أحياء سكنية مستقلة تمثل مناطق الالتقاء فيها مساحات فوضوية. إن هذا المخطط الكبير لم يعمد إلى توحيد أحياء باريس فقط بل وضع شبكة من الطرق والجادات تجمع هذه الاحياء ولا توحدها وقد استدعى ذلك فتح طرق جديدة تطلبت نزع ملكيات العقارت التي مرت بها فقام (هوسمان) بإعادة تخطيط بواقي العقارات وتوزيعها بأسلوب منتظم وفرض عليها نمطاً موحداً أحدث الإحساس بوحدة النسيج العمراني بينما في الحقيقة بقيت التكوينات العمرانية داخل الأحياء وراء تلك الوجهات مختلفة ومتباينة حسب الحي الذي نمت وتطورت فيه. ما يحسب لعمدة باريس أنه أول من وضع خارطة تخطيطية للمدينة (مقاس 1إلى 20000) وقد كانت خارطة إجمالية لاتغوص في التفاصيل الأمر الذي أوجد التنظيم ولم يقيد النمو الحر والمستقل لباقي نسيج المدينة. والحقيقة أن (هوسمان) لم يكتف فقط بمد شبكة الطرق بل طور ما يعرف بنقاط الجذب خُلمَّ التي تحدد منطقية ربط الطريق بنهايتيه وقد استعان في ذلك بأفكار (سيكست كانت) في مدينة روما التي كانت تتميز دائما بربط عنصرين مهمين في المدينة مهما كانا بعيدين. لذلك نجد أن أمتداد الجادات في باريس (الهوسمانية) هو محاولة ربط مباني ونصب مهمة في المدينة تصنع شخصيتها الرأسمالية بمواصفات القرن التاسع عشر مثل ربط قوس النصر بساحة الكونكورد عن طريق جادة "الشانزليزيه" فهذا الربط استمر حتى في باريس المعاصرة إذ نجد أن قوس النصر مرتبط بال "جراند آرك" الذي بني في عهد الرئيس (ميتران) في منطقة الدفاع عن طريق امتداد جادة "الشانز" فما زالت باريس تعيد إنتاج أفكار (هوسمان) بعد أكثر من مئة عام على رحيله. التأثير الذي تركه (هوسمان) على باريس هو الاعتناء الشديد بالفضاء العام على حساب الحي السكني الذي أصبح جامدا يفتقر للتنوع الوظيفي الذي كان يقدمه الحي الباريسي الكلاسيكي وبالتالي أصبحت هناك أحياء متخصصة في المدينة سكني وصناعي وتذكاري وترفيهي وظهر تقسيم المدينة بشكل يخدم "الطبقة البرجوازية" حيث سحبت جميع الاعمال من الأحياء السكنية وأبعدت إلى أطراف المدينة ليبقى الحي خاليا من اي نشاط غير السكن وبواجهات كلاسيكية متكررة إلى درجة الملل. ويبدو هنا أن "رسملة" باريس كانت على حساب سكانها الذين لم يفرحوا كثيرا بهذا التغيير الكبير الذي أفقدهم الشعور بالسكينة الذي كانت تحققه مدينتهم لهم قبل مشاريع (هوسمان) الرأسمالية لكنها سنة التطور فقد كانت أوربا كلها تتجه نحو التغيير بعد مئة سنة من الثورة الصناعية وكان لابد أن يبدأ هذا التغيير من عاصمة أوربا ومدينة النور باريس.