هذا العنوان لأكثر قصيدة رددها الأطفال السعوديون قبل أكثر من عقدين، وتستمر معهم حتى بداية شبابهم. ولكن بقدرما كانت بالنسبة إليهم رائعة وتعد ترنيمتهم المفضلة، يمكن أن نراها الآن بعد أن كبرنا أقبح قصيدة يمكن أن يرددها شخص كبير وليس طفلاً. فهذه القصيدة تمثل مزيجاً مركزاً وبغيضاً جداً من كل الأفكار الكريهة من التعاليم التي تدعو إلى التعصب إلى التفسيرات المؤدلجة المغلوطة والمسمومة إلى التحريض العلني على القتال والانتحار. هذا إضافة إلى كم الشتائم الموجودة فيها (الكلاب - الشياطين) التي تعبر عن نفسية حاقدة ومهزومة. لنلقي نظرة سريعة على بعض أبيات هذه القصيدة التي كنا ننام ونحن نترنم بها "مؤامرة تدور على الشباب.. ليعرض عن معانقة الحراب". و"مؤامرة تدور في كل بيت.. لتجعله ركاماً من تراب" و"مؤامرة تقول لهم تعالوا.. إلى الشهوات في ظل الشراب" "تفرق شملهم إلا علينا.. فصرنا كالفريسة للكلاب". إذا أردت أن تؤذي عقل طفل صغير فلا يوجد هناك أفضل من هذه المقاطع السابقة لتقوم لك بهذا الدور. ومع أن هذه المقاطع قصيرة وسريعة إلا أنها تحوي كل الأفكار المسمومة التي تنغرس سريعاً في العقل، ويصبح من الصعب بعد ذلك التخلص منها. فهي تبدأ بتلطيخ عقل الطفل الصغير والنظيف بالفكر التآمري الخائف من الآخرين. إنه يشعر بأنه مستهدف وأن هناك مؤامرة عالمية وغامضة تريد أن تدمره. كيف يمكن لنا تخيل عاطفة طفل في المرحلة الابتدائية وهو يشحن بهذه الأفكار السوداوية إلا أنها ستكون عاطفة متزعزعة ومرتابة. وهذه المؤامرة لا تستهدفه شخصياً ولكن تريد تحويل بيته وعائلته بالكامل إلى حطام. وبدل أن تدعوه إلى التسامح والانفتاح تطلب منه أن يقاتل ويعانق الحراب. وهي تريد أن تسحق كل قدراته ومواهبه من أجل أن تغرقه في الشراب والشهوات. هذا تأكيد مرة أخرى على خسة هذا العدو الضخم المتآخر الذي يريد منا أن ننغمس في الملذات والشهوات ليس لأنه سيشغلنا عن البناء والتطور ولكن من أجل أن نعانق الحراب. ومع أن قضية الشهوات غير مفهومة بالنسبة للأطفال إلا أن الرسالة البغيضة تصل إلى عقولهم في نهاية المطاف. وتعلمنا هذه المقاطع البسيطة أن ننزع عنهم إنسانيتهم ونعاملهم كالحيوانات. فهم مجرد كلاب قذرة أو ذئاب أو حتى شياطين لعينة. هذه فقط بعض المقاطع، ومن المؤكد أن العارفين أكثر بالنقد الأدبي سيجدون فيها تعاليم مبطنة أكثر سوءاً من التي يمكن أن نتعرف إليها بقراءة مبسطة وسريعة. ويمكن لنا أن نكتشف الآن بعد هذه السنوات الطويلة أنها كانت مجرد أكاذيب. فلم يكن هناك مؤامرة لتهديم بيوتنا التي ما زالت تحافظ على قيمها، ولم نتحول إلى مجتمع غارقين في الشهوات، والشراب، والكلاب والشياطين المعنيين في القصيدة هم الذين يعالجوننا الآن في المستشفيات، ويذهب الآلاف من طلابنا إلى جامعاتهم لتلقي العلوم الحديثة والمشاركة في صناعة مستقبل بلدنا. ولكن للأسف أن تأثير مثل هذه القصيدة ورغم أنه يعاكس الواقع والعقل إلا أنه كان فاعلاً. فالمواقف العقلية إذا تشكلت في الصغر يصبح من الصعب تغييرها. فلا زلنا نؤمن بأفكار المؤامرة على الرغم من أن هواتفنا المحمولة تقول عكس ذلك. وما زلنا ننزع عنهم إنسانيتهم على الرغم من أننا نختار بلدانهم كي نقضي فيها إجازاتنا السعيدة بها. ولا زلنا نؤمن بالأفكار التي تبعثها هذه القصيدة وتقودنا نحو التعصب والانغلاق. وأبنائنا الذين عانقوا الحراب تحولوا إلى إرهابيين يتم سحقهم وملاحقتهم في كل مكان. بالطبع أن هذه القصيدة ليست هي من قام بكل هذا بنا بل إن هناك مئات القصائد وآلاف الخطب والدروس والبرامج التي زرعت فينا مثل هذه العقلية التآمرية المعزولة والكارهة. ولكن مثل قصيدة "مؤامرة" هي ربما نموذج مثالي لهذا الخطاب بالكامل. فهي تبدو جميلة وصحيحة ويتفنن الصغار بابتكار ألحان جديدة لها إلا أنها كانت من جهة أخرى تمرر أكثر الأفكار قبحاً، والتي يمكن أن تعطل عقول الأشخاص وتؤدي ربما إلى قتلهم في النهاية. وهكذا هي تعاليم كل هذا الخطاب فهي تبدو صحيحة وصادقة ومبللة بالدموع، ولكنها في الحقيقة بشعة وتؤدي إلى الكراهية وربما دمار الأسرة بأكملها (تذكروا فقط التفجيرات الإرهابية المؤذية في بلدنا). الأمر الصادم في كل هذا هو أنه كيف كان يسكت الأهالي (بالطبع لن أقول المدرسين لأنهم هم علمونا مثل هذه القصائد. أقل شيء الأهالي كانوا سيرفضون أن نطلق شتائم مثل الكلاب) على كل هذه التعاليم الخطيرة الموجودة في قصيدة "مؤامرة" والعشرات غيرها؟!. لا يمكن لي لوم أمي غير المتعلمة عندما كنت أردد هذه القصيدة عشرات المرات أمامها بدون أن تقوم بتنبيهي إلى خطورة تلك الكلمات المسمومة التي كنت أرددها بابتهاج. لكن ماذا عن الآباء المتعلمين في تلك المرحلة؟!. رغم كل الأخطاء الفادحة التي ارتكبوها بالسكوت والتشجيع أحياناً إلا أنه ليس وقت اللوم. ولكنه بالتأكيد وقت التحذير. هذه فرصة مناسبة لنتعرف إلى كل الكلمات التي يرددها أطفالنا، ويجب أن ننتزعها من أفواهم حتى لو كانت جميلة بالنسبة إليهم، ولكنها تعزز في عقولهم أقبح الأفكار التي قد تؤدي بهم إلى حتفهم يوماً ما. من واجب الآباء أيضاً خلق ذكريات سعيدة لأطفالهم. ذكريات السعيدة حقيقية، وليست مثل ذكرياتنا مع مثل هذه القصائد التي كانت تعبر عن أجمل ذكرياتنا السعيدة، ولكن بعد مرور سنوات وبعد أن اكتشفنا حقيقتها، تحولت إلى أبشع كوابيسنا.