فقد التلفزيون الأميركي أمس واحداً من أبرز الإعلاميين الأميركيين في العشرين سنة الماضية الذين تركوا بصمة واضحة على برامج الحوار السياسي في الساحة الإعلامية الأميركية، بل والعالمية.. فقد توفي أمس مقدم البرامج الشهير تيم راسيرت، مقدم برنامج Meet the Press (قابل الصحافة) الذي تبثه شبكة ان بي سي الأميركية صبيحة كل أحد، بعد وعكة قلبية عاجلته وهو في مكتبه وتوفي خلال لحظات من وصوله إلى المستشفى.. وقد نعى راسيرت عدد من أبرز الشخصيات السياسية الأميركية، ومن بينهم الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه ومرشحا الرئاسة الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين فضلاً عن أبرز أعضاء مجلس الشيوخ. وكان راسيرت يقوم بتسجيل مقدمة برنامجه التلفزيوني في أحد استوديوهات شبكة ان بي سي بالعاصمة الأميركية واشنطن صباح أمس، حين عاجلته أزمة قلبية حادة طرحته الأرض.. وقامت مخرجة برنامجه بطلب الإسعاف ونقله إلى مستشفى قريب، إلا أن المنية عاجلته بعد لحظات من وصوله المستشفى دون تمكن الأطباء من عمل أي شيء لمساعدته. وكان راسيرت في الثامنة والخمسين من عمره. وقد اجتاحت واشنطن موجة من الذهول والصدمة بعد انتشار خبر وفاته، وعزاه العديد من الشخصيات السياسية البارزة في الولاياتالمتحدة، بمن فيهم بوش الذي أصدر من أوروبا، حيث يقوم بجولة وداعية، بيان تعزية وصف فيه راسيرت بأنه "مؤسسة ورجل أخبار قوي ومجتهد في عمله بصورة نادرة".. ووصفه المرشح الديمقراطي أوباما بأنه "ليس فقط صحفياً بل وصديقاً أيضاً، ولم يكن هناك إعلامي يستطيع إجراء مقابلة سياسية أفضل منه".. أما ماكين فوصفه بأنه "الصحفي الأبرز في الإعلام السياسي في جيله". وكان راسيرت، الذي أوصل البرنامج الذي يقدمه إلى فئة البرنامج التلفزيوني الأشهر في برامج المقابلات السياسية التلفزيونية في الولاياتالمتحدة، واسع النفوذ في الأوساط السياسية الأميركية إلى حد أن ظهور مرشح سياسي على برنامجه كان كفيلاً برفع حظوظ ذلك المرشح أو وأدها في مهدها.. وحين أعلن راسيرت بعد منتصف ليل الخامس من مايو الماضي بعد انتخابات ولاية انديانا ان المرشح الديمقراطي أوباما قد حقق عملياً الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي له كمرشح للرئاسة، عاملت الصحافة الأميركية ذلك الإعلان وكأنه "حدث سياسي بعينه" وبدأت وسائل الإعلام تستشهد به كدليل على أن أوباما قد أصبح فعلياً المرشح الديمقراطي، حتى قبل أن تعلن حملة أوباما نفسه أنه بات كذلك. وقد لعب راسيرت عدة أدوار في حياته في السنوات العشرين الماضية، فقد كان قبل دخوله حلبة التلفزيون ناشطاً سياسياً معروفاً في الحزب الديمقراطي، إذ عمل في حملتي السناتور دانيال باتريك موينهان من نيويورك وحاكم الولاية ماريو كومو، وعمل مديراً لهيئة موظفي موينهان.. كما كان رجلاً مطلعاً على دخائل ما يحدث في واشنطن، ومدير مكتب ان بي سي في العاصمة الأميركية، ومعلقاً في شبكة ام اس ان بي سي، ومغرماً بالألعاب الرياضية، وكاثوليكيا ملتزماً.. ولكن ما أثار اعجاب الكثيرين في الآونة الأخيرة هو كتابه الذي أصدره قبل سنتين "راس الكبير" الذي كان عبارة عن كتابة السيرة الذاتية لحياة والده، وهو مهاجر ايرلندي بسيط كان يعمل في وظيفة يدوية في شمال ولاية نيويورك ربى من ورائها أربعة أبنائه، بمن فيهم تيم. أصدقاء تيم راسيرت صعقوا بفقدانه.. وقال بوب شيفر، منافسه الذي كان يقدم برنامج Face The Nation (واجه الأمة) في شبكة تلفزيون سي بي اس، "إنني أحب الرجل.. وحين كنت أحصل على سبق صحفي أهم من سبقه، كنت أشعر وكأنني حققت انتصاراً كبيراً. وقالت عنه جودي وودروف، وهي مراسلة سابقة في ان بي سي وتعمل مع شبكة بي بي اس الآن، إن تيم "صنع ليعيش في واشنطن لأنه كان يعيش ويتنفس السياسة". وقد التفت حياة راسيرت العملية بعدد من أبرز الأحداث السياسية البارزة في التاريخ الأميركي المعاصر. فقد كان هو أول من أعلن في وقت مبكر من ليل الانتخابات الأميركية عن فوز آل غور في ولاية فلوريدا، قبل أن يتبين أن المرشحين قد تعادلا ثم رفعا قضيتهما إلى محكمة العدل الأميركية التي حكمت في النهاية لصالح المرشح بوش حينئذ. وبعد أحداث 11سبتمبر، اختار نائب الرئيس ديك تشيني أن يظهر في برنامجه "قابل الصحافة" للتعليق على ما حدث، وفي أواخر العام 2006، اختار السناتور باراك أوباما أن يظهر في البرنامج نفسه ليعلن أنه يعتزم خوض الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام الحالي. وكان راسيرت قد قام بنقل والده العجوز، الذي كان يعمل عامل تنظيفات في شمال نيويورك، إلى ملجأ جديد لكبار السن في الأسبوع الماضي، ثم أخذ عائلته الى رحلة استجمام قصيرة إلى إيطاليا للاحتفال بتخريج ابنه لوك، وهو معلق إذاعي رياضي، من جامعة بوسطن كوليج هذا الشهر، يذكر أن زوجة راسيرت هي الكاتبة في مجلة "فانيتي فير" مورين أورث. وخلال دقائق من وفاة راسيرت، قطعت برامج التلفزة الأميركية برامجها المعتادة لبث خبر وفاته وبث مقاطع من أبرز مقابلاته مع السياسيين الأميركيين، وهو ما بدا وكأن رئيس دولة قد اختطفته المنية على عجل، وليس مجرد صحفي، وبث خبر وفاة راسيرت مقدم الأخبار الرئيسية السابق بشبكة ان بي سي الذائع الصيت توم بروكو، الذي قال في إعلانه خبر وفاة راسيرت إنه "عمل إلى حد الإجهاد على مدى عدة أسابيع"، مضيفاً أن "مكتب الأخبار بالشبكة لن يعود أبدا إلى ما كان عليه قبل رحيله". ووصف رئيس شبكة ان بي سي ستيف كابوس رحيل راسيرت بأنه "فقدان للأمة جميعا، إن كلامنا في ان بي سي تعيش حالاً من الذهول، ونعيش نشعر بالانسحاق". ولعل أبرز ما ميز مقابلات راسيرت هو جرأته وتوجيه الأسئلة الأكثر إثارة للضيف، فهو كان مستعدا أن يسأل سياسيا يقيم كل حياته السياسية على تخفيض العجز في الميزانية الفدرالية عن البرامج التي سيقتطعها أولا لو أتيحت له فرصة ذلك، أو توجيه سؤال إلى أحد السياسيين المعارضين للمساعدات الأميركية الخارجية إن كان يفكر في وقف المساعدات عن إسرائيل مثلا. وكان راسيرت شاهدا في المحاكمة الشهيرة التي جرت لمدير هيئة موظفي تشيني سكوتر ليبي، الذي كان ادعى أنه علم لأول مرة بأن المسؤولة في السي آي ايه فاليري بليم كانت عميلة سري للوكالة من تيم راسيرت، واستدعت المحكمة راسيرت كشاهد ليومين نفى فيهما كليا أن يكون حتى بحث أمر تلك السيدة مع ليبي، فصدقته هيئة المحلفين وأدين ليبي في القضية. وقد تخرج راسيرت من كلية جون كارول الكاثوليكية في نيويورك قبل أن يلتحق بكلية كليفلاند مارشال للقانون والمحاماة. والتحق للعمل في ان بي سي في العام 1984كنائب للرئيس قبل أن يتولى تقديم برنامج "قابل الصحافة" ورفعه الى مصاف البرامج الأهم، قبل أن يصبح البرنامج صاحب أكثر نسبة مشاهدين من بين كل برامج الحوار التلفزيوني السياسي الأميركي أبدا. وكان البرنامج يدر أكثر من 50مليون دولار سنويا، وهو ما دفع بشبكة ان بي سي إلى توقيع عقد مع راسيرت مدته 11سنة كان من المقرر أن ينتهي في 2012، ويقدر العاملون في الصناعة أن راسيرت كان يتقاضى أكثر من خمسة ملايين دولار سنوياً.