قد تكون فرنسا هذه المرة خسرت السبق في صنع الحل السياسي اللبناني، فالدوحة العربية كانت هي السباقة في وضع المسار السياسي اللبناني على السكة. ولكن هذا لا يعني انها خسرت الالق الخاص الذي كان لها دائماً في لبنان. إذ ما كاد الخبر يذاع بزيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى لبنان، حتى رقصت قلوب لبنانيين كثيرين لفرنسا "ام الدنيا عموم" كما في الزجل اللبناني منذ زمن بعيد. وقد خدمت غريزة ساركوزي السياسية والاعلامية صاحبها بدفعه الى زيارة لبنان في لحظة تاريخية مناسبة، اي بعد انتخاب رئيسه. فالترحاب القوي مضمون، وليس في لبنان اليوم طائفة تعتبر نفسها بعيدة من حيث المبدأ عن فرنسا الرسمية وغير الرسمية. واذا كان المرحوم رفيق الحريري قد نجح في ان يضارب - وهو المسلم السني مذهباً - على الجميع في اجتذاب عواطف الفرنسيين، فانه لم يصل في ذلك - والحق يقال - الى حد الاحتكار. فالتلفزيونات كانت هناك في وسط بيروت، تسجل وقائع احتفالات زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى لبنان في اثر العدوان الاسرائيلي عام 1996، ويذكر الجميع كيف قدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري رجالات المقاومة الى الضيف الفرنسي، وكيف اسهب بالحديث عن مشروع الزعيم اللبناني الشيعي الصاعد يومذاك، السيد حسن نصر الله، ما ادى الى ما يشبه الصحوة عند الرئيس الفرنسي على شخصية السيد الواقف على رأس المقاومة، وبها يصعد مقامه وسلطانه في الاوساط الشيعية اللبنانية كافة في لبنان وفي المهاجر، ومنها الافريقية الواقعة تحت النفوذ الفرنسي. ملفتة تلك الصورة القديمة التي جمعت هؤلاء الثلاثة، وملفت حرص الحريري على تقديم السيد لشيراك. هل هو مجرد تعريف للرئيس الفرنسي بلبناني كبير كان بدأ يلعب دوراً في الساحة اللبنانية؟ ام هو كما قيل يومذاك، طلب استعانة من الحريري الى الرئيس الفرنسي للعمل معاً بمزيد من الفهم للبيئة الجنوبية اللبنانية المنزعجة والمتضررة مباشرة من العدوانية الاسرائيلية؟ فالمطلوب فهم واسع محلي ودولي لضبطها، مخافة مضاعفاتها! ام هو لفت نظر لشيراك من الحريري بوجود مسألة شيعية وصلت من التأزم الى حد شعور الجنوبيين بأن لا حل الا المقاومة على اوسع نطاق، وهي ايضاً حق يشعر به الجنوبيون الكثيرون الموجودون في المهجر الافريقي التابع بشكل او آخر لسلطان فرنسا. ليس المسيحيون وحدهم من موارنة وغير موارنة اصدقاء تاريخيين لفرنسا، بل المسلمون سنة وشيعة ودروزاً، تربطهم بفرنسا كذلك روابط قديمة. فالصداقة اللبنانية الفرنسية متجذرة وقديمة. وقد كتب الياس ابو شبكة في ما مضى كتاباً عنوانه: روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة!. ان بعض الوطنيين المناهضين للانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان كانوا يقولون من موقع النصيحة ان فرنسا بمجرد تسليمها بالاستقلال اللبناني والسوري، ستكتشف انها رابحة بالمقابل ادواراً و صداقات في العالم العربي والاسلامي، وسترى ان فرنسا اكبر من الاولى ستولد، بعد خروجها من سوريا ولبنان. وهذا ما يشعر به الآن على الاغلب ساركوزي، بأن صداقة لبنان والعرب هي الأجدى والاليق لفرنسا. وهل من قبيل الصدفة ان ديغول محرر فرنسا كان صديقاً لعبدالناصر وقضية العرب؟؟ ليس ساركوزي ديغولاً ولا شيراكاً آخر باشعاعات المجد الديغولي، وبالتالي قد لا يكون قادراً في لبنان او غيره على احياء كل الايجابيات والمشاعر المحبة لفرنسا المختزلة في الذاكرة الشعبية، سواء في لبنان الصغير في العهد التركي، اي الجبل المسيحي، او دولة لبنان الكبير التي اعلنها الجنرال غورو بعيد الحرب العالمية الاولى، والتي هي جغرافياً جمهورية لبنان الحالي، بل ومدنياً ايضاً. صحيح ان استقلال لبنان عام 1943ازاح سياسياً سلطان فرنسا بمعركة وطنية سيادية جادة كلفت قادة الاستقلال دخول السجن في راشيا، وانشأت زعامات شعبية وطلابية ذات حيوية واثر، منها على سبيل المثال لا الحصر، نقيب المحررين ملحم كرم، الا انه يجب الاعتراف بأن دولة الاستقلال يومذاك لم تمس بحكمة كبيرة منها الوجه الحضاري او الدمغة الحضارية التي صبغت بها السلطة الفرنسية الانتدابية الادارات والقوانين في لبنان، بل اكتفت بتحرير الادارة من ملامح النفوذ الانتدابي السياسي والاداري. الحقيقة ان وثبة الاستقلال كانت وظلت احدى ارقى الوثبات المماثلة في آسيا وافريقيا كانت في تصرفها السياسي والوطني في اقصى الحزم، وفي تصرفها الثقافي والمدني الحضاري في اقصى درجات الحرص على المكتسبات. ان هذا معروف، ولكن ليس بشكل كاف. فما من استقلال قال الحق كل الحق بلسان شارعه ومسؤوليه في وجه خصمه، كما فعلت حركة الاستقلال اللبناني عن فرنسا الانتداب. وبالمقابل ففي وثيقة واحدة أمرت فرنسا باعتقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح وغيرهما، وقادتهم الى سجن راشيا رداً على خطاب لرياض الصلح في مجلس النواب، رأت فيه اعنف هجوم على الانتداب الفرنسي وكل ما شابهه بما هو سلطة اجنبية. والى جانب ذلك مباشرة، كان رياض الصلح قد اعلن تعلق لبنان بحضارة التقدم، ولكن هذا على وديته لم يرض فرنسا التي اشارت الى ان حكومة الاستقلال هاجمت فرنسا مرات وليس مرة واحدة في خطاب واحد هو البيان الوزاري على ان تصرفات الانتداب هي مشروع استعماري متفق عليه ومنسق مع مشاريع استعمارية اخرى، فالبيان يقول مثلاً: لن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولا لاستعمار اخوانه العرب ممراً، بل وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً. انه هنا لا يتهمها باستعمار لبنان فقط، بل بالرغبة في استعمار غيره ايضاً، اي الشقيقة سوريا، معلناً في الوقت نفسه مسؤولية لبنان في التضامن مع اي بلد مهدد من القوى الاستعمارية. هذه الصراحة القديمة والكاملة في وصف الاطماع الغربية بالاستعمار، وهذه الصراحة في اعلان اجماع لبنان على محاربته بالمطلق، ليس كل شيء في خصوصية الوقفة الاستقلالية اللبنانية موجدة لبنان السيادي عام 1943، بل ان جانباً آخر من هذه الخصوصية يتجلى في التفريق الواضح والدقيق عند حكومة الاستقلال بين الاستعمار الغربي والحضارة الغربية. فبقدر ما هو الاستعمار مرفوض من لبنان كيفما كان، سواء اريد منه ان يكون له مقراً او ممراً، فان لبنان العربي الوجه يبقى ايجابياً ازاء كل ماهو خير ونافع من حضارة الغرب. هذا الكلام، وان كان قد قيل في لبنان البلد الصغير بالقياس الى بعض الدول العربية الكبيرة، بل وان جاء ايضاً قبل زمن بعيد من الساعة التي نحن فيها، فانه يبقى الكلام الاقيم والاوفى في شرح خصوصية لبنان، سواء في مخاطبته للشرق او للغرب. انه بعد كل حساب، وطن عرف طريقه الى الاستقلال منذ زمن، فكان اول وطن يستقل في آسيا وافريقيا، والحرب العالمية الثانية لم تنته بعد. وكباره ماضون بجرأة يلعبون ادواراً ويضعون قواعد ربما غيرهم البعيد والقريب اكثر استفادة بها منهم. ان المزاج اللبناني في هذه الايام كامل الثقة بالذات وبالقواعد التي قام عليها منذ المعركة الاستقلالية عام 1943.وهو الآن في بداية عهد لعب فيه اخوانه العرب من خلال مؤتمر الدوحة دوراً كبيراً في مساعدته. والمطلوب هو تزكية القواعد الفكرية التي قام عليها لبنان عام 1943، لأن لبنان بهذه القواعد، كما يعتقد البعيد والقريب، قادر على البقاء قوياً بنفسه واخوانه العرب واصدقائهم في العالم، ومنهم فرنسا ساركوزي ضيف لبنان بالامس. ان لبنان رغم كل ما تعرض له كان وظل حجر زاوية - ولو متواضعة - في المنطقة، فهو هو لا اسرائيل يجب ان ينظر اليه اقوياء العالم، لكي يكونوا واضعي يدهم على نبض المنطقة. وقد دلت الايام على ان علاقة كيمائية تربطه بالعرب. فلا يفكرن احد بامكان التدخل بين لبنان وبين عروبة المنطقة، والاهم بالنسبة لكل غربي او غير غربي يريد ان يتكامل مع لبنان، هو العودة الى نصوص آباء الاستقلال. فهي ترفض الاستعمار او اي شكل منه وتميز بينه وبين الحضارة الغربية، وتلتزم في نصوص واضحة بالخير النفع من حضارة الغرب، كما تلتزم بالوجه العربي للبنان، أي الحقيقة منه والدور. وأهلاً بساركوزي في لبنان المحب لفرنسا بقدر ما أحبت القيم واعطت منها. ولكن فرنسا كثيراً ما كانت تكلف لبنان فوق طاقته فتخسر ويخسر لبنان. ومن الاعراف الدولية، ان كل رئيس فرنسي يعود اقوى الى بلده بعد زيارة