في الجزء الأول من هذا المقال أكد الدكتور عبدالله الثنيان الخبير الاقتصادي ومدير عام الشركة العربية لتنمية الثروة الحيوانية ان الأمن الغذائي العربي قضية لا تتوقف أهميتها على كونها مجرد هم اقتصادي ملح وإنما تمتد ابعادها لتمس السيادة والأمن القومي العربي. وقدم تشخيصاً للأزمة التي يعيشها العالم حالياً نتيجة النقص في المعروض من الغذاء وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية بشكل غير مسبوق خلال الفترة الأخيرة ثم تطرق إلى أسباب هذه الأزمة وأوضح ان ارتفاع أسعار الغذاء العالمي له مسببات عديدة منها الاقتصادية والبيئية والديمغرافية وغيرها لكنها عوامل تتجمع لتجعل العرض أقل من الطلب وبالتالي ارتفاع الأسعار وعرض الثنيان في الجزء الأول تحليلاً مفصلاً لأسباب انخفاض المعروض من السلع الغذائية والتي تمثلت في انخفاض الإنتاجية وبالتالي الإنتاج العالمي من الغذاء بمؤثرات "التغير المناخي"، واتجاه دول رئيسة مصدرة لمحاصيل القمح والذرة وقصب السكر وفول الصويا إلى استهلاكها في إنتاج الطاقة الحيوية وهو ما يعرف بالوقود الأخضر وتقليص أراضي الإنتاج الزراعي لصالح الصناعات التحويلية في عدد من الدول المنتجة للحبوب بالإضافة إلى تأثير الاحتكارات والمضاربات العالمية. وفي هذا الجزء يأتي الثنيان إلى جانب الطلب فيوضح ان ما حدث من ازدياد الطلب على الغذاء وبصفة خاصة في العامين الأخيرين مرتبط بالنمو العالمي فارتفاع أسعار الطاقة إلى أكثر من 400بالمائة منذ عام 2003م وازدياد معدل الاستهلاك العالمي للغذاء، إضافة إلى النمو المضاعف لكل من الصين والهند الذين يضمان أكثر من 40بالمائة من فقراء العالم، ومع زيادة عدد السكان وارتفاع مستوى المعيشة في الدولتين ونمو الطبقة الوسطى فيهما زاد الطلب ليس فقط على السلع الأساسية مثل الأرز والذرة وفول الصويا والقمح بل أيضاً على اللحوم والألبان وغيرها من المواد الغذائية الغنية بالبروتين. فالفرد الصيني كان يأكل في عام 1985م 20كيلو جراماً من اللحوم سنوياً في المتوسط أصبح الآن يأكل أكثر من 50كيلو جراماً من اللحوم سنوياً وكل كيلو من لحوم الأبقار يحتاج في إنتاجه إلى حوالي سبعة كيلو جرامات من الحبوب وهو ما يعني ان الأراضي التي يمكن استخدامها لزراعة المواد الغذائية للبشر يتم تحويلها لزراعة الأعلاف إلاّ ان هذا السبب بطبيعته يكون بطيئاً ومتدرجاً ولا يفسر غلاء الغذاء. وقبل الانتهاء من استعراض أهم العوامل التي أثرت على أسعار الغذاء إلاّ أنه تجدر الإشارة إلى ان قانون العرض والطلب ليس المحدد الوحيد لارتفاع أسعار الغذاء خصوصاً في حال السلع الغذائية الحيوية فسعر هذه السلع يتأثر بعوامل متشابكة شديدة التعقيد أهمها وكما أشرنا زيادة أسعار النفط وظاهرة الانحباس الحراري والاحتكارات والمضاربات العالمية وغيرها من عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية أيضاً. @ هل يستجيب العرض بسبب ارتفاع الأسعار، وبالتالي تنتهي الأزمة أو على الأقل تقل في حدتها؟ - من الطبيعي ان يستجيب العرض من السلع الأساسية لهذا الارتفاع في الأسعار لا شك في ذلك لكن إلى أي مدى ستؤثر استجابة العرض على دفع الأسعار للانخفاض وما هو الوقت الذي يمكن ان يحدث فيه هذا هو السؤال الذي لا نملك الاجابة عليه في الوقت الراهن، خصوصاً وكما أشرنا ان القضية معقدة يتشابك في التأثير عليها عوامل متعددة فبحسب تحذيرات منظمة الغذاء العالمي ( 6مارس) فإن الارتفاع في أسعار الغذاء ستتواصل حتى العام 2011م وهذا يعني أننا إما سنبقى مع أسعار غذاء على الأقل ضعف ما كنا ندفعه قبل عامين أو أننا قد نواجه أسعاراً متقلبة وغير ثابتة خلال الأعوام القليلة القادمة. @ ماذا عن المنطقة العربية وكيف يمكن الخروج من هذه الأزمة؟ - أغلب جهود الحكومات العربية الحالية جاءت مباشرة في صورة دعم للسلع الأساسية أو التوجه نحو زيادة الإنتاج وتثبيت ومراقبة الأسعار وكذلك خفض التعريفة الجمركية وفي بعض الحالات حظر التصدير أو تقليصه ورغم ان مثل هذه الإجراءات ضرورية من الناحية السياسية لتهدئة الأزمة إلاّ أنها لا تصلح كحلول على المدى المستقبلي وستزول قيمتها ليس بالضرورة بعد سنوات بل ربما أشهر في بعض الحالات. باختصار نحن أمام معادلة صعبة يواجهها المواطن العربي بشكل عام وبصفة خاصة في بعض الدول يتلخص طرفاها في الخلل وعدم التوازن بين معطيات العولمة والاقتصاد العالمي من جهة ومعطيات اقتصادية داخلية ومتطلبات حياتية أساسية والقدرة على التعايش والتعامل مع الأسعار العالمية من جهة أخرى. هنا لابد ان يكون هناك نوع من التوازن ومن جهة ثالثة ان قدرتنا على المنافسة ظلت محدودة فغيرنا نجح في هذا الدور، أما نحن فأصبحنا أكثر استهلاكاً في حين تركنا الإنتاج وتركنا الخدمات. وهنا يجب التأكيد على ان الأزمة الغذائية في الوطن العربي لم تكن وإلى حد كبير - وحتى عهد قريب - مشكلة نقص أو شح في الموارد المتاحةولا نمواً سكانياً متسارعاً أو عجزاً في الإمكانات المالية وإنما هي بالدرجة الأولى مسألة فشل أو خلل في السياسات الزراعية وسوء استغلال لما هو متاح للوطن العربي من موارد فهي جزء من مسألة التنمية العربية في جوهرها بأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية والتوزيعية على المستوى القطري والقومي فعلى سبيل المثال رغم الأعداد الكبيرة للثروة الحيوانية في الوطن العربي فإن مستويات إنتاجها لا تزال عاجزة عن تلبية الطلب المحلي، وذلك بسبب ضعف وتخلف أساليب الإنتاج والتربية والتصنيع فهي أساليب تشهد تبايناً كبيراً بين الدول العربية من حيث المستوى الفني والتقني المتبع في تربيتها إذ تطغى الأساليب التقليدية وبصفة خاصة في البلدان ذات الثروة الحيوانية الكبيرة وفي المقابل ينهج عدد قليل من الدول العربية أساليب تربوية حديثة من حيث التغذية والرعاية البيطرية وغيرها وهي في الغالب الدول العربية ذات الموارد الحيوانية المحدودة. إن تعاظم الفجوة الغذائية وتدهور نسب الاكتفاء الذاتي في الوطن العربي يسمح بالقول ان الأمن الغذائي مازال حلماً يتطلب تحقيقه البدء من الآن في اتخاذ جملة من المواقف والإجراءات الموحدة والمتكاملة لإزالة المشاكل التي تعيق التنمية الزراعية على وجه الخصوص ويتطلب الخروج من المأزق الغذائي جهوداً عربية جادة على طريق العمل العربي المشترك في جميع الأصعدة وبالذات الصعيد الزراعي إلاّ ان هذا العمل مازالت تنقصه الإرادة والنشاط للخروج من الأزمات التي يعاني منها. فرغم ما يعانيه الوطن العربي من مشكلة غذائية آخذة في الاتساع فإنه يملك من المقومات والإمكانات الموضوعية ما يكفيه ليس فقط لسد حاجاته من الغذاء فحسب، بل وتحقيق فائض يمكن تصديره إلى العالم الخارجي. فبالتفاعل بين الموارد الزراعية (المياه والأراضي الصالحة للزراعة) وبين مزيد من الاستثمارات المتاحة في الوطن العربي يتحدد مستقبل التكامل الاقتصادي العربي في مجال إنتاج الغذاء. وقد أصبح جلياً ان على العرب ان لا يعملوا فقط على تجاوز أزمات ظرفية وقصيرة المدى وإنما هم مطالبون باتخاذ مواقف حاسمة واستراتيجية تتمثل في دمج قواهم في قوة واحدة حقيقية تمكنهم من بناء كتلة اقتصادية فاعلة في عصر التكتلات الزاحف، تضمن استغلال وحماية مواردهم بشكل أفضل يضمن توفير الحاجات الغذائية العربية محلياً (قومياً) في وقت وكما أشرت في البداية يصبح فيه الأمن الغذائي العربي قضية لا تتوقف أهميتها على كونها مجرد هما اقتصادياً ملحاً وإنما تمتد أبعادها لتمس السيادة والأمن القومي العربي