سأل سائل: ما تفسير التناقض الذي نعيشه الآن في سوق العمل: زيادة الطلب على اليد العاملة وزيادة العاطلين؟ هناك أكثر من تفسير، وأهمها، فيما أرى، يتركز باختصار في كلمة واحدة: العزوف. لدينا مشكلة عزوف من المواطنين عن ملايين الوظائف، لأن دخلها متدن.. أو لأنها غير مرغوب بها اجتماعيا. وكلا الصفتين يصحبهما عادة تدني الأمان الوظيفي. وأشهر وظيفة متدنية الأجر وغير مرغوب بها اجتماعيا وظيفة عامل بالمعنى الشعبي، ومجالها واسع جدا، بحيث يغطي تقريبا كل القطاعات وأنواع الأنشطة. وهناك مهن يدوية تتطلب مؤهلات علمية بسيطة، ومهارة أو نصف مهارة، كالطباخ أو الخباز أو فني كفني تمديدات صحية (سباكة) أو كهربائي أو نجار أو خياط أو...الخ. هذه المهن غير مرغوب بها اجتماعيا، ولكن دخلها من حيث المتوسط ليس مرتفعا بما فيه الكفاية في عيون أفراد المجتمع. وأستثني من يعملون في شركات كبرى حيث الاعتبار الاجتماعي، ومخصصات وأمان وظيفي مرتفعان نسبيا. التقسيم السابق للتقريب، لأن هناك وظائف بين بين، ولكن المغزى أن هناك بصفة عامة نوعين من الوظائف: وظائف متدنية الدخل ووظائف غير مرغوب بها اجتماعيا، وقد تجتمع الصفتان في بعض الوظائف. كم عدد الذين يعملون في تلك الوظائف في المملكة، باستثناء العمالة المنزلية؟ ملايين، أي أن هذه الوظائف كبيرة العدد. وكما في عامة الشعوب، يفترض أن يعمل بهذه الوظائف كلها أو نسبة كبيرة منها المواطنون، ولكن الواقع خلاف المفترض، مما يفسر جزئيا زيادة العاطلين والمستقدمين (بفتح الدال) في وقت واحد مع الطفرة الحالية. سؤال: هل الأصل التوازن في سوق العمل بحيث يميل إلى توازن العرض والطلب؟ هناك نظريات كثيرة في موضوع سوق العمل وتوازنه، والمجال ليس مناسبا لاستعراضها. ولكن أقول باختصار ان الأصل هو توازن سوق العمل أو ميله للتوازن، حتى ولو لم يتحقق التوازن التام. قد يسأل سائل: ما الذي ترمي إليه؟ يفترض أن في السكان كفاية أو ما يقارب الكفاية من حيث العدد لشغل الوظائف، وتبعا لذلك، لا حاجة إلى الاستقدام إلا في نطاق أضيق مما يجري. والنتيجة أن الاستقدام بأعداد كبيرة يعني تلقائيا صنع بطالة. هناك دول كثيرة ذات مساحات كبيرة ولا تعد من الدول كبيرة العدد بالسكان، وبعضها دول مرتفعة الدخل كاستراليا. فهل تستقدم هذه الدول ملايين لأداء الوظائف السابقة؟ مؤكد أن الجواب لا. يشتكي أحد رجال الأعمال أنه بحاجة إلى عمالة، لعمل كذا وكذا، ولا يجد حاجته. طبعا هو يقصد أنه لا يجد عمالة غير سعودية، وشبه مؤكد أنه لن يجد عمالة سعودية بالأجور السائدة، فكيف إذا أضفنا العامل الاجتماعي. هناك احتمال كبير بأنه سيجد ولو بعض حاجته من العمالة السعودية، بشرط بذل أجور عالية بما يغريهم بالعمل والانضباط. ولكن لماذا عليه أن يبذل أجورا عالية وغيره لا يفعل؟ هذه بعض جوانب المشكلة. السماح باستقدام مئات الآلاف من اليد العاملة سنويا، سيحل أو يخفف كثيرا مشكلة آنية للشركات ورجال الأعمال، ولكن لنفكر على مدى أبعد. يدخل سوق العمل مئات الآلاف سنويا، وسيتجاوز هذا العدد المليون سنويا بعد حين، وسيتضاعف عدد السعوديين في غضون 20سنة ليصبح في حدود 40مليونا. وسياسة حل المشاكل آنيا، ستصعب إيجاد وظائف للملايين الذين يدخلون سوق العمل. لا مناص من الحد من الاستقدام، وهذا الحد سيضغط مع الوقت على سوق العمل، وخاصة سوق الوظائف المعزوف عنها، من حيث الأجور وساعات وعلاقات العمل وبنية الشركات وغيرها. وتبعا لذلك ستحدث تغيرات هيكلية في الاقتصاد والتوظيف: مثلا من المتوقع أن يزيد نصيب العمل في الدخل القومي، وأن يقل الاعتماد على الغير في أداء الأعمال اليدوية. وحتى لا يساء الفهم أقول الحد وليس المنع النهائي. من المؤكد جدا أن الحد يسبب مضارا كبيرة على المدى المتوسط، وقصة رجل الأعمال الذي يطلب عمالا ولا يجد مثال لهذه المضار، ولكن كما يقول المثل: مكره أخاك لا بطل، علينا أن نوازن بين هذه المضار والمضار المصاحبة لعدم الحد، ومن يقول بأن بإمكاننا تلافي المضرتين معا فهو يعيش في أوهام. ولكن الحد لابد أن يصاحبه سياسات عمل أقوى وأكثر جرأة تخفف صافي الضرر، ومنها تسخير الشركات الأجنبية العاملة في البلد لتدريب السعوديين على شغل وظائفها اليدوية؛ وإصلاح نظام الكفالة؛ وتحسين بيئة العمل في الشركات والمؤسسات الصغيرة، لأنها الصانع الأكبر للوظائف التي يكثر فيها العزوف؛ وزيادة قدرات صندوق الموارد البشرية، بل جعل بعض فروعه صناديق مستقلة، كما فعل مع جامعات حينما استقلت بعض فروعها، وفي وزير العمل ونائبه وزملائهما خير وبركة، وبالله التوفيق،،، @ دكتوراه في الاقتصاد