كنت تقول: اعتدنا على هذا، فليست هي الحرب الأولى في البصرة ولا الخراب الجديد. وكنت أحاول تخيل نوع هذا التعوّد، فلم أفلح إلاّ مع ما حسبته تجربة في المعتقل. كنت أقول لنفسي، في لحظة ما: كم أستطيع البقاء هنا. وفي تمتمة خافتة أجبت: ربما سنوات طويلة، وربما العمر كله. أفزعني قراري، فسكت عن محاورة نفسي. حدث ذلك في زمن بعيد، وأنت قلت هذا عن مدينتك قبل سنة لا أكثر. من هم الذين يقفزون برشاشاتهم ويهزجون؟ بودي أن تكون معي هذا الصباح، كي أسألك مثل كل مرة، أسئلة لفرط سذاجتها تحتمل الصفح. فما أدراك من يرقص فرحا في لحظة القتل، وما أدراك انهم هكذا جُبلوا على هذه العادة، وما أدراك أنك أدمنت على رؤية وجوههم. وما المدينة في النهاية إلاّك، وهي تعتاد عبثهم بالموت، وتعتاد قبولها بهذه العادة. يأتون من الأرياف، أو يخرجون من خرائب أنفسهم، يقطعون الشوارع أو يربضون فوق الأسطح. يبتسمون او يتجشؤون. ترتبك وجوههم، أو تفغر أفواههم بعد شهقة الموت. هم هكذا في سباق مع العبث، أحرار في صناعة الفراغ، يهشون ذباب الهواء، ويقهقون من ملل الترقّب. كم من مواسم للقتل تحتاج البصرة كي تكون غير التي تعرفها أنت؟ وكم من النساء تحتاج كي تقتنصهن المليشيات؟ مزقت مدية جسد محمود البريكان، وما أخفى القاتل هويته، فقد طرق الباب وألقى تحية المساء. كانت سقوف البيوت واطئة، عندما جالت الكاميرا في شوارع البصرة، أطفال حفاة يتحركون بين السواقي، وخراف تتقافز بين قدمي رجل يلف الكوفية على رأسه. ديزي الأمير تصف البصرة وأنا أستمع اليها ببيروت: ياعيني، تقول بعد كل جملة. تبتسم وتتأوه، وتغالب ذاكرة الزهايمر: لم ألتق بشرا يشبهون ناسها. هم حنونون وطيّبون، أكاد أتذكر كيف احتضنتني المدينة ولفتني بذراعها. "لفتني بذراعها". استوقفني تعبيرها مثل جملة تخرج من قصة كتبتها هي قبل هذا الوقت، عناوين قصصها تشبه هذه الجملة. أشحت بوجهي عنها الى بحر بيروت المطل من نافذة بيتها، وتذكّرت أمي عندما بكت ونحن نغادر البصرة. لم تقل " لفّتني بذراعها"، ولكن قالت شيئا يشبه هذا. كنا نحن الصغار نبكي معها وهي تغالب شهقاتها. تخطئ الكاميرا وتنسى شكل المدينة، مثل آدمي يرتبك وهو يواجه حبا قديما. مذكرات الجندي البريطاني تتحدث عن صغيرة تجلس على عتبة بابهم، وتلوّح بيدها لدوريتهم كل صباح. اعتادت هذا، وتعلمته من الأطفال. وعندما تختفي يبحثون عنها، فهي أكثر من طفلة تجلس على عتبة بيت فقير. كانت بشارة السلام، وما يشبه التعويذة. هكذا تصنع الحرب خوفها، وتبتكر سلواها. لا جبابرة ولا أذكياء، مجرد حمقى وممسوسين. صادفتك تلك الشخصيات في القصص يا محمود، ولكنك خفت أن تكتبها. أو نسيت أن تنظر الى المدينة، وأنت تذهب الى مكتبك صباح كل يوم. ساقتك العجالة الى الإهمال، وتوقعّتَ وقتا أطول من الوقت. أنت ملول مثلهم، وتتأخر في الكتابة، مثل شخصياتك التي لم تكتبها، ولم تحاول ان تتحسس أذرعها وهي تحمل الرشاشات، وتتسمع الى ركضها الخفيف في الأزقة. أنت تنشغل عن الحرب، أو تراها تبالغ في تمثيل دورها، وتضع أقنعة المهرجين، فتعاقبها بالصمت، وتطردها من قصصك. ولكن ما يحدث لهم، لهؤلاء الذين لم تشركهم في الحكاية، يلفت النظر الى تاريخ يصنعونه دون أن تدري. ستقول: هم عدميون وقساة، وشرسون. حسنا، ولكن كل تلك الألفاظ لا تجدي، فما يقرّبهم من الانتحار، هو مزاج وطن بأكمله. ألم تشعر أن ثمة أخطاء في التنبؤ، إخفاق في التعريف لما تكون عليه الحكاية وهي تفلت من عقالها، وتتجول في الأسواق كما كتبها الحريري في مقاماته، أبطالها المكدي والمحتال، ومقتنص الانتباه. حكايات اليوم لها رنّة النياحة في ارتجالها، وهي تصف السادر في غلوائه، الجامح في جهالته، ولكنها تعجز عن وصف شكل عنفه وهو يخرج عن التوقع ليتحول الى شرط لتحقيق النصر. ألم يردد الكل هذا، حتى وهم يصنعون سلامهم، ويتقاسمون الغنيمة. يهزجون ويردحون مثل قبيلة بدائية لم تنطق بأبجدية بعد، يجرّون المدينة من شعرها، ويلطخون وجهها بالوحول، فمن أين لهم كل هذه القوة؟ لو لم تكن البصرة غير التي هي عليه اليوم، لو كانت البصرة، كما كانت سيدة المدن، لطردتهم من أبوابها، وسدت عليهم المنافذ. ولكنهم اليوم يطردونها من تاريخها وثقافتها، وقبل كل هذا، من تراث الإخاء الذي عُرفت به بين المدن العراقية. هم يقتلعون سدرة المنتهى، وانحناءة النهر الذي يربط دجلة بالفرات. ألا يكفي كل هذا كي يكون صمت شيخوختك الأخير، شهادة تصعب كتابتها، فهي تمضي مع الأيام، كما سهت البصرة اليوم عن نفسها.