افتتن بحب الخمر.. فلما نزل حكمها حاول تركها فلم يستطع.. نزلت عقوبتها فشرب وسكر فخرج وعوقب، ثم سكر ثانية فعوقب، ورغم أن للخمر ذنباً من الوزن الثقيل والكبير.. إلا أن للقلوب والمشاعر تجاه الله ورسوله عليه السلام أوزانا أثقل، فقد نال جزاءه ونفذ عليه السلام حكم الله فيه، لكنه لم يبعده، ولم يهجره، ولم يعبس في وجهه، أو يسبه، ولم يطرده من قلبه، بل أحبه.. أجل أحبه، وحرض على حبه!. ذات يوم أتى به سكراناً، فطبق الحد عليه، فرآه أحد الصحابة رضي الله عنهم، فغضب من تكراره وقال: (اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به) فالتفت عليه السلام لذلك اللاعن وأنكر عليه، وقال له كلمات تكشف عوالم الحب داخل ذلك الرجل المدمن.. قال عليه السلام: (لا تعلنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله - البخاري 6- 2489) وذات مرة عوقب (فقال بعض القوم: أخزاك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا رحمك الله - البخاري وأحمد). كان عليه السلام وفياً..كان حانياً يعرف أن صحابته ليسوا ملائكة، لذا فهو ينظر إلى المناطق الخصبة فيهم.. يمطرها بالحب فتهتز ربيعاً أخاذاً، لكن ماذا لدى شارب الخمر الفقير المعدم هذا من مساحات خصبة حتى يحتفي به عليه السلام؟. كان لديه الحب لله ولرسوله.. حب يشرق في قلبه وينسرب في أعماقه، لذا بادله عليه السلام بحب أجمل، فتحول ذلك الصحابي المحب إلى راسم للبسمات على ثغر محمد الجميل، حتى أغرته ابتسامات نبيه وضحكاته إلى حد تدبير المقالب له، فكان عليه السلام يشرب مقالبه كالماء البارد، أتحبون أن تعرفوا إحدى مقالبه؟. كان يذهب لدكاكين المدينة، فيستلف منهم الطعام، ثم يأخذه إلى بيت أحب الناس إليه.. إلى بيت محمد الذي لم يعنفه يوماً ولم يكشر في وجهه أو يعيره بذنبه ويسخر منه، فيهديه فيقبل منه هديته، وتمر الأيام، فيراه التاجر فيمسك بتلابيبه ويطلب منه سداد ديونه التي كثرت، فيهون من الأمر، ويأخذه ليسدد له، ويأتي المقلب كما يرويه عمر بن الخطاب فيقول أن الرجل: (كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتسم، ويأمر به فيعطى - أبو يعلى بسند قوي 1- 161). هذا هو نبينا، فلنتأمل جماله وسعة صدره ورفقه وأفقه، فلسنا أحرص على دينه ولا على أمته منه، ولسنا أكثر تأثيراً منه، وليس لدينا مدن ملائكة، وليست مفاتيح الجنة والنار بأيدينا، ما أجمل أن نحب الله ورسوله أكثر من أي شيء وإن كنا مقصرين.. ما أروع أن نرفض الإساءة إليهما، ما أجمل أن نكون مثل ذلك الرجل الذي أخرجه قلبه من بيته.. أخرجه حب لم يقو على كتمانه، فحلق به حبه أبعد مما يحلم عندما باح به وقال: "متى الساعة؟ قال عليه السلام: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت"، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم - البخاري 3- 1349).