ذكر الكاتب فهد السلمان أنه تفاجأ حينما رأى دفتر ابنته المدرسي يحمل اسم القبيلة مضافاً إلى اسمها العائلي، وهاله أن تفعل ابنته ذلك وهو الذي لم يسجل اسم قبيلته في أي أوراقه ولم تكن القبيلة جزءاً من ثقافة البيت، (الرياض 2008/2/15). والحق أن هذا الذي صار من ابنة الكاتب له جذور عريقة من حيث كونه حدثا يحدث في مدرسة، والناس يرسلون أطفالهم إلى المدارس ليتعلموا المعرفة، ولكن الأطفال هناك يتعلمون أشياء أخرى إضافة إلى المعرفة، وهم يتعلمون مفردات سلوكية ومفردات لغوية وصيغا ثقافية تتنشأ فيما بينهم ويعلمها بعضهم بعضا، ومن طبع هذه الدروس الخصوصية التلاميذية أنها ذات تأثير فعال، هو أقوى وأخطر من كل ما في الكتب ومما على ألسنة المدرسين. ودور المدرسة في إعادة صياغة أذهان الطلبة كبير جداً، خاصة الجانب الذي ينتجه الطلاب بجهدهم الخاص، وفي أمر القبيلة فإننا على مشهد جوهري في تشكيل المدرسة للوعي القبلي، وأنا هنا سأنقل رؤية طرحها على شيخنا الأستاذ عبدالرحمن البطحي، وذلك في مداولة لي معه قبل سنوات وكنت أحضر فيها مادة لبحثي هذا عن القبيلة، ولقد تعرض رحمه الله لدور المدرسة في إعادة رسم القبيلة في أذهان الأطفال، وسبب ذلك عنده يعود إلى دخول العشائر إلى المدن ثم إدخال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس، وقد دخلوا أفواجا وجماعات. وعلى دفعات كبيرة، ودخل الأبناء البدو إلى المدرسة وهم في حالهم القبائلية من حيث أسمائهم ومن حيث تصوراتهم لحال الحياة، ولم يكن في مقدورهم تصور العالم خارج إطار مفهوم القبيلة بما انهم ينتمون للقبيلة ويتحركون بمسماها وبمعناها، وهذا أدى بهم إلى أن يشرعوا في سؤال زملائهم وزميلاتهن من أبناء وبنات المدينة عن قبائلهم، إنهم يسألون تحت وطأة المفاجأة غير المفهومة لهم، إذ يرون أطفالاً بأسماء عائلية لا تكشف عن القبيلة، بينما هم يحملون أسماء قبائلهم مثلما يحملون معانيها، وليس في مقدور أبناء القبيلة أن يتصورا بشرا خارج إطار القبيلة ولذا شرعوا في لعبة التعرف والتفهم تماماً مثلما نفعل نحن إذ نسأل الناس عن بلدانهم وأوطانهم حينما يجمعنا بهم مجمع أو مكان. هكذا طرح السؤال لأسباب عملية تعارفية في البدء وكان له مبرر وجودي من أجل تحديد التصور وتصنيف من معك من البشر، غير أن هذا السؤال انطلق من المدرسة إلى البيوت محمولاً على ألسنة الأطفال لأهاليهم يسألون من أي قبيلة نحن، وهناك يأتي الجواب، ويعود كل طفل ولديه رد يرد به، ولكن هذا لم يقف عند مجرد التعارف والتعريف، حيث جاء أطفال آخرون بلا جواب عن القبيلة، ومن هنا نشأ شيء من التمييز الأولى بين من له قبيلة ومن لا قبيلة له، ثم توالت الأسئلة ليتلوها أحاديث عن القبائل وتاريخها وذاكرتها. هناك أخذت ذاكرة القبيلة تتأسس في المدرسة، وأخذ الحس ينمو بالتفريق والتصنيف، وتبعه نشوء شجرات النسب استجابة لمتطلبات السؤال والجواب، وزاد معها حس التميز حيث ستحمل شجرات النسب رسومات وخطوطاً وإطارا ثم ستتموضع في صدر المجلس وستكون حديثاً فيه نشوة وتاريخ وهوية، مما يعني أن البيت والأسرة استجابت لمتطلبات السؤال وانساقت معه. هكذا يفعل السؤال بالبشر لأنه ينبش في المنسي ويجعله حاضراً، والجواب إذا حضر حضرت معه شروطه الثقافية والتاريخية وصبغ اللحظة بصبغته، وصاغ الذهن حسب صيغته. لقد شهدت بنفسي حركة السؤال ومفعوليته، وأنا رجل نشأت نشأة مدنية ولم أكن أشعر بالقبيلة على أي مستوى من مستوياتها، ولم تكن لي على بال، ومر عمري على ذلك حتى سكنت في جدة، وهناك حدث ما لم أكن أتوقع حدوثه، وهو أن كلمة الغذامي تتقاطع صوتيا مع الغامدي والقثامي، وهذا طرح إشكالاً في دلالة المعنى وصحة النطق، وكثيراً ما رأيت اسمي يكتب بصيغة الغامدي أو القثامي، وفي الإنجليزية يتداخل مع القحطاني، وكثيراً ما بادر أناس لتصحيح اسمي ظنا منهم بأنني غلطت في نطقه حتى إن أحد الأشخاص قرعني مرة ظنا منه أنني تعمدت تحريف اسمي وبدلا من ذكر أنني قثامي عدلت عنه وهذا عنده تصرف شنيع كما شدد علي في ذلك. ثم جاء دور السؤال إذ ما ذكرت اسمي في مجلس إلا وجاء السؤال: لمن يرجع الغذامي وما عشيرتك..؟ وهو سؤال عشت عشرين سنة في عنيزة لم يسألني فيه أحد مثلما درست في الرياض وعشت ست سنوات ولم يكن اسمي موضع سؤال، ولكن تداخل اسمي في جدة مع أسماء قبائل لها حضور قوي في جدة هو ما أحدث السؤال، وكنت أجيب لمجرد الإجابة، ولكنني أحسست مع الزمن أن (شمر) حضرت في ذهني بمقدار حضورها على لساني، وصرت أسمع من يقول لي يا ابن العم واكتشفت أن فرع (عبدة) من شمر يعود إلى قحطان وأنهم أبناء عم عبيدة قحطان، وأن عبدة جاءت إلى حائل في القرن الثامن الهجري، كل هذا جاءني من سؤال ظل يلح بالتردد علي عن اسمي، وهكذا صنعت جدة لي تاريخا قبائلياً لم يكن في حسباني قط ولم أكن أعرف عن قبيلة شمر إلا ما كنت أسمعه من أهلي وغير أهلي من سواليف هي ذات بعد ثقافي وتاريخي محبب لنا كثقافة وكرمز وجداني، ولم أكن أعرف عن أصدقائي وزملائي سوى أسماء عائلاتهم ولا يخطر ببالي أصلهم القبلي أو عدم قبائليتهم، ولا يمكن أن أسمع سؤالا في هذا الشأن، ولم يكن هناك تمييز من أي نوع وعلى أي بعد، هذا في مرحلة حياتنا التعليمية والتكوينية التقليدية الأساسية. إن ما جرى ويجري من مفعولية السؤال لأمر عميق المفعول، سواء من حيث نشوء أسبابه أو من حيث توفر أو عدم توفر الإجابة عليه، وبين الإجابة وعدم الإجابة على الأصل القبلي أو عدمه تنشأت المعاني الافتراضية وهي معان قادت إلى توهم بالتميز بما ان هذا يملك جواباً وذلك لا يملك جوابا، والذي لديه جواب صار يحس أن له تاريخا في الأرض وله ذاكرة في الثقافة فصار يتشبث بهذا التميز المفترض ونشأت الترتيبات في المنازل والمكانات. لقد انتقل الأمر من الأطفال في المدارس ليؤثر السؤال على الآباء وعلى الأسر بعامة، وهو ما أحدث ظهور شجرات النسب أولاً، ثم أوجد حسا ملحاً فرضه الأطفال على أهاليهم لتحقيق هذا المطلب الطفولي المدرسي في أصله، ونتج عن هذا أنك صرت ترى أسراً كريمة لها جاه ومقام رفيع، ولم تكن في الأصل الاجتماعي محسوبة على الأصول القبائلية، وفجأة صرت تسمع وترى أنهم أخذوا ينبشون في بطون الوثائق ويستنطقون كبار السن من أجل التعرف على أصول لهم منسية ونشأت عادة اجتماعية في استعادة كثير من الأسر الكبيرة لدعوى قديمة بأن لهم نسباً قبائليا، وصاروا يسعون إلى التأكيد على هذا بصناعة شجرة نسب قبائلية وإقامة الحفلات بإعادة التعارف مع القبيلة ويدخل ذلك في الصحف كأخبار ويجري تسويق المكتشف برغبة عميقة في تحقيق الذات. هذا عزز فكرة القبيلة أكثر وأكثر وأعطى شعوراً أن القبيلة مطلب نفسي واجتماعي وقيمي، وبدلاً من أن تؤدي هذه الأسر ذات الوجاهة العالية دوراً في تحييد اسم القبيلة وإبقائه في حدود المعنى الثقافي والاجتماعي، راحت بتصرفها هذا تعزز من قبائلية القبيلة وكأن هذه الأسر تتبرأ من مدنيتها وأسريتها ومن علاقات الرحم المدنية التي تتشابك معها، كل ذلك من أجل تتويج اسمها بمرجعية قبائلية منتزعة من بطن النسيان. ما أذكره هنا هو وقائع عملية طرحت القبيلة كسؤال أولاً ثم فرضته كجواب ثانيا، ثم عززته كمعنى مطلوب وكبحث ضروري، حتى صار أصلاً اجتماعياً وقيمياً، وهذا يتساوق مع ما ذكرناه في المقالات السابقة من عودة إلى الأصولية التقليدية كاستجابة على المتغير الثقافي الكوني وما حمله هذا المتغير من نشوء حالة عمومية في الخوف من المعلوم حيث عاد الناس لأسطورياتهم. ويبقى السؤال المعقد وهو لماذا حدث هذا التأثير، أي لماذا لم تؤثر ثقافة المدينة على ثقافة البادية وليس العكس، ولماذا صارت مفعولية السؤال البريء في أصله أكبر من مفعولية المفاهيم العائلية المدنية..؟؟!!. لابد أن نتذكر التواريخ ومعها الوقائع وهو أن هذا حدث في فترة الثمانينات من القرن الماضي، أي فترة تراجع المثاليات القومية والحداثية وبداية تقهقر الطبقة الوسطى - كما أشرنا في المقال السابق - وهو ما صاحبه عودة الأصوليات التقليدية في الثقافة الكونية بعامة، وهذا جو ثقافي عالمي ظهرت معه كل أنواع الهويات الذاتية كبديل للهويات الكبرى. إن هذا الجو هو الأرض الخصبة لنبتات النكوص، وحينما جاء سؤال القبيلة على لسان طفل إلى طفل، فإنه حسب ذلك الجو المهيأ للبحث عن الذات قد جاء ليلعب لعبة لغوية خطيرة تعرف في مجال الألسنية الحديثة، وهو أن البرمجة اللغوية تقضي إلى برمجة عصبية، وكلما تكررت المقولة اللغوية بشكل مركزي ومتواتر فإنها تثبت في الذهن أولاً كمتصور لغوي مطلق وراسخ، ومع استمرار ذلك وتواتره تصبح نظاماً عصبياً مبرمجاً، ولقد حدث لسؤال القبيلة أن مر بهذه المراحل حتى صار بمثابة القانون الثقافي والشرط الاجتماعي، وهي كلها ناتج لمفعولية البرمجة وتجاوب الناس مع السؤال، من حيث أخذه كتطبيق وإجراء والتصرف تبعا له كجواب ثم كمسلك. والسؤال حينما صار فإنه أيقظ حسا نسقيا كان نائما، وحينما تيقظ النسق وجد جواً ثقافياً عاماً يمر بمرحلة إحباط ثقافية كبيرة بسبب تهاوي شعارات الحرية والوحدة والأمة العظيمة، وهذا فراغ وجد النسق فيه أرضا خصبة يرتع فيها، ومثلما صار عندنا فقد صار في أوربا وأمريكا عودات أصولية هي عندهم مرجعيات رمزية تقليدية استعادتها ظروف التغيرات الكبرى، وفكرة الخوف من المعلوم، كما ناقشناها من قبل.