لم يدر في ذهني وأنا أصوغ فكرة ملتقى يقيمه قسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يجمع رؤساء ومنسوبي أقسام الأنظمة في المملكة ومراكز التدريب القانوني أن يلقى الملتقى هذا النجاح والتفاعل من منسوبي هذه الأقسام الذين يمثلون شريحة مهمة من رموز الفكر الحقوقي في هذه البلاد، وأن يحقق الملتقى أهدافه المرسومة له بحمد الله. وما دعاني إلى الظن بأن الملتقى لن يتم له النجاح المأمول هو انه قد حال بين التقارب بين بعض هذه الأقسام أسباب موهومة، عند التأمل فيها نجدها أسباباً واهية عظمت بعدما تمسك بها البعض وانساق جيل بعد جيل لاتباعها دون المبادرة إلى الوقوف على حقيقتها، وأرباها الدهر بطوله لمدة تزيد على الثلاثين عاماً؛ غير أن ما أفرزه هذا الملتقى من تجاوب وتفاعل في الطرح ومودة عفوية بين المشاركين قبل وأثناء انعقاده قد أزالت كل هذه الظنون. فنحمد الله تعالى أولاً ونشكره على تيسير هذا الملتقى، ثم نشكر راعي هذا الملتقى صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي شدد في كلمته على أن منطلق الأنظمة في المملكة هو موافقتها للكتاب والسنة، والشكر موصول كذلك لمعالي مدير الجامعة والأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل الذي ذلل الصعاب لانجاح هذا الملتقى، والشكر موصول أيضاً لكل المشاركين في هذا الملتقى الأول من نوعه في المملكة من رؤساء الأقسام، وأساتذة السياسة الشرعية والأنظمة ورؤساء مراكز التدريب القانوني الذين تجاوبوا وتفاعلوا وأوصوا وتواصوا بتفعيل نتائج الملتقى وتكراره سنوياً. إن نجاح المشاركين في هذا الملتقى إنما هو نجاح لفكر معتدل، فكر يريد التقارب لا التنافر، فكر يريد الإفادة من تجارب الآخرين وتنمية القواسم المشتركة بينهم وصولاً إلى نشر الوعي الحقوقي بين أفراد المجتمع. وقد أثرى الملتقى بأوراق عمل ناقشت أهم السبل التي تؤدي إلى التقارب بين هذه الأقسام، وخرج المشاركون بتوصيات أهمها: العمل على تبادل أعضاء هيئة التدريس بين أقسام الأنظمة لتدريس المقررات الدراسية وتبادل الأساتذة في مجال مناقشة الرسائل العلمية والعمل على إيجاد آلية لاقرار مناهج دراسية مشتركة بين الأقسام العلمية، ومن التوصيات أيضاً: دعوة المختصين في الأنظمة من الأكاديميين والمستشارين والمحامين إلى تفعيل جمعية الأنظمة المنبثقة عن كلية الأنظمة والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود وصولاً لتحقيق أهدافها المتمثلة في نشر الوعي القانوني في المجتمع وتحقيق التواصل العلمي لأعضاء الجمعية وتقديم الاستشارات العلمية القانونية للجهات الحكومية والخاصة، والعمل على تنمية الانتاج العلمي القانوني لأعضاء الجمعية وتبادله، إلى غير ذلك من التوصيات المهمة. وكان مما طرحه قسم السياسة الشرعية: تجربة القسم الطويلة والثرية في تدريس الأنظمة بكافة فروعها دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي وذلك لطلاب مرحلتي الماجستير والدكتوراه ومن ذلك على سبيل المثال: تدريس مادة نظام العمل إذ يدرس الطالب مواد النظام السعودي كاملة وفق الواقع التطبيقي ووفق ما كتبه شراح النظام وتتم المقارنة بقوانين العمل في الدول الأخرى وشروحها، ثم يقارن ذلك كله بأحكام الأجير الخاص في الفقه الإسلامي؛ ومن الأمثلة أيضاً مادة النظام التجاري: إذ تدرس ضمنها عمليات البنوك كافة والالتزامات والمسؤوليات القانونية المتبادلة بين أطراف العقود المصرفية وتكييف كل عقد قانوناً ويبسط خلاف شراح القانون في المسألة إن وجد، ثم في نهاية كل عقد يبين تكييفه في الفقه الإسلامي وخلاف الفقهاء المعاصرين فيه ثم يقارن بين الفقه والقانون في المسألة. هذه التجربة آتت أكلها بحمد الله فأكسبت الطالب ثروة علمية جمع فيها بين مدرسة القانون فأفاد منها تنظيراً وتبويباً وتطبيقاً كما أفاد التأصيل الشرعي والحكم الفقهي من المدرسة الأم، مدرسة الفقه الإسلامي. كما أن هذه المقارنة فتحت لخريجي القسم مجالات عمل أرحب في المجالات القانونية أو الشرعية، فخريج القسم مؤهل للقضاء الإداري أو التجاري أو العمالي أو الجزائي إن كان قاضياً، وهو مؤهل للأعمال التي تدور في فلك القضاء سواء كانت أعمالاً استشارية أو بحثية في الدوائر الحكومية المختلفة، أو في القطاع الخاص سواء في البنوك أو الشركات أو المحاماة أو غيرها، بل وحتى في مجال الوظائف الدبلوماسية. كما ظهر أثر هذه المقارنة في رسائل الدكتوراه وفي البحوث التكميلية لطلاب الماجستير فالطالب يلزم عند تسجيله البحث أن تكون دراسته مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون؛ وهذا المنهج البحثي ساعد على إثراء المكتبة الشرعية والقانونية بمئات الرسائل العلمية الرصينة التي تناولت كافة فروع القانون ومسائله، وهناك تطلع لنشر هذا النتاج العلمي للقسم لعله يتحقق قريباً. @ رئيس قسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية