منذ أكثر من خمسين عاماً، يقوم قادر ناصر صادق أقدم خياط في بغداد، بلصق صور على جدران مشغله في وسط بغداد تروي قصة حياته كما تستعرض تاريخ بلده المضطرب. والصور الملصقة بشكل متقارب والمأخوذة من الصحف أو من أشخاص تروي لحظات مقتضبة وأحداثاً كبرى كان الخياط شاهداً عليها. ويقول العجوز الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة "انها ذكرياتي" مشيراً باصبعه إلى مئات الصور التي غطت مشغله على مر السنين. ولم يتبق مكان في الجدران الزرقاء اللون التي بهت طلاؤها بفعل الزمن للصق مزيد من الصور لتوسيع المجموعة. لكن قادر قرر انطلاقاً من مشغله القابع في شارع ضيق من منطقة الرشيد تحدي العاصفة التي تضرب بلده. ويؤكد الخياط الذي يرتدي صدرية وربطة عنق لصحافي من وكالة فرانس برس "سأبقى هنا" وذلك بعد السؤال عما إذا كان يريد الانسحاب من وسط بغداد الغارق في الفوضى. ويضيف قادر النحيل القوام والأشيب الشعر "لم يتغير شيء في المشغل منذ أن استأجرته العام 1957مقابل خمسة دنانير في الشهر". وقد اشترى قبل 30عاماً ماكينة خياطة بدلاً من آلة "سنجر" القديمة الميكانيكية والمكوى اللذين استخدمهما في بداياته. لكن الإيجار يبلغ حالياً 35الف دينار ( 25دولاراً) في حين انهار كل شيء في الجوار كما فقد شارع الرشيد زمنه الغابر وبريقه. ويقول قادر بحسرة متطلعاً إلى المنازل المهجورة والأرصفة المليئة بالحطام، ان "هذا السوق كان أجمل شوارع بغداد". ويغلق التجار أبواب محلاتهم بعد الظهر عائدين إلى منازلهم. وقد بدأ قادر لصق الصور على جدران مشغله فور استئجاره بحيث باتت اليوم تشكل فسيفساء ضخمة تضم سياسيين ومشاهير وفنانين ومطربين عرباً وشخصيات أخرى. لكن صورته الشخصية تتصدر المكان وكان حينها أسود الشعر عميق النظرات ويرتدي بدلة رمادية وربطة عنق محكمة باتقان ويعلق قائلاً كمن يتعذر عن شيخوخته "لقد كنت شاباً". بدا قادر حياته المهنية بصنع بزة عسكرية لابن عمه النقيب في الجيش العام 1957قبل عام من انقلاب العقيد عبدالكريم قاسم على الملكية في تموز/ يوليو 1958.ويوضح العجوز "كانت تلك أفضل أعوام حياتي بل أفضل فترة في العراق" مشيراً إلى صورة للزعيم قاسم الذي ما زال العديد من العراقيين يذكرونه بمزيد من الأسى والحزن. وكان الرئيس السابق صدام حسين حاول قتل قاسم العام 1959في مكان يبعد خطوات قليلة عن مشغل قادر. ويروي الخياط تفاصيل المحاولة قائلاً "سمعت أصوات طلقات نارية وهرعت إلى مكان مصدرها فرأيت الزعيم قابعاً في سيارته وساعدت في نقله إلى المستشفى". وعلى أحد جدران المشغل، يبدو الزعيم في احدى الصور محاطاً بأطبائه مرتدياً سترة بيضاء اللون. وقد لقي قاسم مصرعه بعد أربعة أعوام في انقلاب نفذه عسكريون مهد لاستلام حزب البعث السلطة العام 1968.ويقول قادر انه كان "أكثر أيام حياتي حزناً بالإضافة إلى يوم وفاة شقيقتي" علياء التي كانت مطربة ولقيت حتفها في حادث عام .1964.ويحتفظ قادر بنصب صغير لتكريمها في إحدى زوايا مشغله. ويؤكد شعوره بعدم المبالاة بعد وفاة شقيقته والزعيم قاسم لكنه استمر بلصق صور النجوم والسياسيين أو ما يتعلق بأحداث مهمة أو لحظات كبرى في حياته. ويزيح قادر بدلة قيد الانتهاء من أحد الجدران ليظهر صور أبنائه الأربعة وزوجته نرجس كما يحتفظ في زاوية أخرى بصورة لصدام حسين أشعث الشعر التقطت له يوم اعتقله الأميركيون. @ (أ.ف.ب)