قبيل صلاة العصر دخلت مجموعة من الناس مسجداً بالقاهرة يحملون نعشاً كي يقيم المصلون الصلاة على الميت بداخله، بينما بقيت النساء خارج المسجد تواصل الولولة. وبعد أن أدى المصلون الصلاة على الميت حاول أهله حمل النعش للخروج به فعجزوا. لقد تشبث النعش بالأرض بقوة فشلت معها كل المحاولات لزحزحته وكأن الميت لا يريد أن يقبر، هلل الناس وكبروا وقرءوا القرآن ولا فائدة، فقال واحد من أهل الميت سامحوه كلكم وباركوه بدعواتكم حتى يزول الكرب، لكن رجلاً في طرف بعيد صاح قائلا: لا تحاولوا، هذا الرجل مات وفي رقبته دين لي وأنا لن أسامحه والنعش لن يتحرك حتى أسامحه، توسل إليه أقارب الميت عبثا، وبالتالي اقترح أحد المصلين أن تجمع له التبرعات فامتدت كل الأيدي بما في الجيوب، جمعوا مبلغا ممتازا وأعطوه لصاحب الدين الذي انطلق به وهو يردد : "لقد سامحته". تجمع الناس حول النعش ليروا إن كان الميت سيطاوع أهله ويمضي معهم، وطال انتظارهم كثيراً دون أن يتقدم أحد لحمل النعش، وفتشوا عن أهل الميت في الوجوه فلم يروا منهم واحدا، عندئذ أشار أحدهم بأن يتقدم المتطوعون لحمل النعش ودفن الميت ولهم الثواب، وأشار آخر بفتح النعش لمعرفة هوية الميت، وعندما فتحوه لم يجدوا بداخله جثة بل كتلا من الحجارة. هذه عملية نصب بالغة التعقيد، فالنصاب عادة ضحيته فرد أو مجموعة محدودة، أسرة مثلا، وهؤلاء أوقعوا بجماعة المصلين كلهم دفعة واحدة، والسبب في هذا أنهم وضعوا خطتهم بذكاء نادر ودرسوا كل الظروف وجيّروها لنجاح خطتهم.. المصلون بطبيعتهم أناس طيبون وأتقياء لا يفترضون الكذب في الآخرين، والمسجد بيت للعبادة لا يرد على الذهن أن يستغل في عملية نصب، وللميت حق في الصلاة عليه ومواراته التراب، والحالة بكاملها تستدعي في القلوب حزنا فطريا حتى وإن كانوا لا يمتون بصلة للميت، لأن الجسد المسجى يفتح لهم عيونهم على نهاية الدنيا التي بلغها واحد، التمت دنياه في صندوق خشبي وبعد لحظات تلتم أكثر في حفرة لحءد محكمة لا يحيط بجسده فراغ ملليمتر واحد، بعد أن كان يمرح بين جدران القصور، ويجوب الشرق والغرب محلّقاً في فضاء الكون داخل قطعة حديد.. كذا الدنيا بكل زخارفها.. إن أسدلت العين جفنها لحظة غابت بكاملها. هؤلاء المحتالون تجردوا من أي حس إنساني يصون حرمة المكان وكرامة الموت وحق الغير، وتعاملوا مع النفوس الصافية الطاهرة بمكر وغدر، مع ذلك فالذكاء الذي خططوا به كان يؤهلهم للانتصار في معركة حربية أو للنجاح في تجارة شريفة أو لكسب المال الحلال، ولهذا أرى أنه ذكاء أسود لا يساوي إلا ذروة الغباء، غباء في رأس رجل إن كان فردا، وفي ضمير أمة إن كان دولة. أنتظر يوما يقف من بين جموع الطيبين رجل يشير بفتح نعش آخر، كان قد دخل به الأمريكيون أرض الرافدين، دون أن يراعوا حرمة المكان وشرف الإنسانية وكرامة الغير، مستغلين طيبتهم وحسن نواياهم، قالوا إن بداخله جسداً طيباً، كنا قد جئنا به من البعيد لينشر بينكم العدالة والمساواة، ويرد إلى ألسنتكم قدرة الكلام، لكنه مات بينكم، غرق في بحار من دمكم، وأنتم الحاملون لهذا الوزر. أخرجوا ما تبقى في جيوبكم وتحت أرضكم إرضاءً للشهيد، وحين ينصرفون سيحدّق الطيبون المسالمون داخل النعش، ليروا ما إذا كان بداخله جثة الديموقراطية المزعومة التي دخل بها الأمريكان أرض الرافدين، أم مجرد كلمات لزيفها تصلبت وأصبحت كتلاً من الحجارة؟