في ذلك الوادي تلألأت النجوم العاليات وأمطرت السماء الملبدة بالغيوم لتبكي الجبال الشامخات التي تركت قلبي في جنباتها وحيداً معلقاً بتلالها البعيدة.. حيث الطهر والنقاء ومنابع الشجاعة والإباء.. هناك مراتع أطيب خلق على وجه البسيطة هناك أبي نعم أبي الذي تركته يحمل قلباً أثقله ألم البعد والرحيل تركته يقلب جرحا بين الضلوع والحنايا رحلت ونفسه الزكية ترسم المشاعر أقوالا والأقوال أفعالا والأفعال خطوات ثابتة من الثقة والاعتزاز.. معا رسمنا قصورا من الآمال والمستقبليات التي أعجزنا الزمان عن تحقيقها تحدثنا بأعيننا عن ما عجزت عن وصفه الألسن تركت أبي في مملكته الهادئة تركته يتأمل تلك الأزهار التي أزهرت قبل حينها وبات يخشى أن تذبل سريعا خطت قدماه ليغطيها خشية أن يهلكها شدة المطر وزخات البرد القوية كان ينظر من خلف النافذة وعيناه تطرق بعيدا.. ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة لم اعتاد يوما أن يبخل بها علي.. رحلت عنه وهو يتأمل أحرفا رسمتها في بقايا أوراق في مكتبه كتبت بها اسمي متشرفا باسمه وكتبت أرقاماً ربما أنها كانت تعني لي شيئا يوما ما وأظنه تاريخ لا يحبه والدي الحبيب وكتبت أيضا اسما لشخص يشبه والدي كثيرا ويرسم خطوات أبي أمامي فابره وأزكيه أمامه.. رحلت عنك يا والدي وقد أمضيت وقتا ليس بالطويل معك ولكن شوقي لم يصل إليك وظمأ نفسي من وجودك لم يرتو كما ارتوت زهور أمي وشجيراتها الخضراء من نظراتك المتتالية بل لم تهنأ روحي بابتسامتك كما هنأت به ناقتك ذات الرموش الطويلة.. لك الله يا جبال بلقرن كيف حجبت عني منظر والدي متوشحا بدقلته الأنيقة حاملا عكازا أجبره الزمان على حمله فيتناساه عمدا وان حمله كان كرها على كره لك الله يا أرضها الصامدة كيف لك أن تنجبين مثل ابا محمد لك الله يا واديا ارتسمت خطى أبي في بطونك وهو يراقب أثار الأمطار وما فعلته بملامحك التي تمثلت بملامح أبي لك الله يا سدرة شامخة علت مئذنة يجلجل فيها صوت والدي بالنداء إلى الصلاة وهمسات استغفاره قبل أن تنتشر خيوط شمس الصباح لك الله يا حديقة غناء تغزل فيها فزادها عشقاً وجمالاً وأبهرت بريق عيناه وحديثهما نواظرها فتفحت تطلب المزيد من الشوق والأمل الذي لم يصل وبقي رهين نفس مكلومة بشوقها الجارف الذي عجزت عن ترجمته الليالي الممطرة ولم يرسمه الدخان الذي يتصاعد من بيت الشعر الذي تدرج ركائب نفس والدي اليه.. وبقي هناك قرب مسجده ذي المئذنة الطويلة عندما حان الرحيل بل الأمر أنه فضل أن يبقى بعيداً وبصحبة من رافقها كرها على كره.