على الصفحة الثقافية لجريدة "الرياض"، العدد 14491الثلاثاء 19صفر 1429ه، قرأت مقالاً للكاتبة خيرية عبدالله، إحدى الباحثات المتخصصات في التراث، أثارت فيه موضوعاً مهماً، هو ضرورة تكريم أولئك المتميزين الذين يعملون في صمت، في حياتهم حتى يكون التكريم حافزاً لغيرهم لتقديم المزيد من الاخلاص والعطاء لهذا الوطن المعطاء. وقد خصصت الباحثة الكريمة هذه المقالة بحديث طويل عن التراثي العريق الأستاذ محمد بن عبدالعزيز القويعي وطالبت بتكريمه لقد أثار مقالها هذا في نفسي ذكرى قديمة يعود تاريخها إلى عام 1399ه؛ أي منذ ما يقارب من ثلاثين عاماً. إنه العام الذي تعرفت فيه، أول مرة، على الأستاذ القويعي، ولعل من الطريف أن أذكر المناسبة هذه لأنطلق منها إلى الدعوة إلى ما أريد الحديث عنه: في ذلك العام، 1399ه كان قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود يقيم ندوة للتراث الشعبي كل عام على أرض الجامعة الحالية قبل بنائها، وكنت في ذلك العام رئيس تلك الندوة. في ليلة الافتتاح - الذي كان على شرف صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض - جاءني شاب يرتدي عباءته العربية، ويحمل أوراقاً في يده، وكان البرنامج معداً سلفاً، فقال: أرغب أن ألقي كلمة في الحفل، وقد طلبت ذلك من المسؤولين فرفضوا! قلت له: رفضهم صحيح لأن البرنامج والكلمات والقصائد تعد مسبقاً ثم تلقى حسب الترتيب، قال: ولكنني مهتم بالتراث وأرغب في المشاركة! لما رأيت الحماس والإصرار على وجهه قلت له: هذا الدكتور عبدالله العثيمين يلقي قصيدته الآن فكن مستعداً بعده. وفعلاً ألقى كلمته ولا أظنه إلا قد انطلق بعد ذلك تراثياً مخلصاً لهوايته، ليصبح اليوم أحد أهم التراثيين في المملكة. ومرت السنين ولم ألتق الأستاذ القويعي شخصياً إلا منذ عام أو أقل. لكني كنت على علم طوال تلك السنين بنشاطه وأنه لم ينقطع أبداً عن التراث وجمعه والاحتفاء به والتأليف حوله. لقد كان أحد الرجال القلائل الذين أفرغوا كل جهدهم ووقتهم ومالهم لخدمة التراث الشعبي في هذا الوطن حتى أصبح متحفه الذي سعدت بزيارته واحداً من أندر المتاحف الخاصة نظراً لما يحويه من مجموعات أثرية محلية تمثل مختلف مناطق المملكة تحت سقف واحد. إن الأستاذ القويعي بالإضافة إلى ذلك يعد "موسوعة تراث شعبي تمشي على الأرض" كما تقول عنه الأخت الكاتبة خيرية عبدالله؛ فأنت لا تسأله عن إحدى قطع متحفه إلا ويبهرك بحديث طويل مفصل عن تلك القطعة تعجب معه لشدة ولائه وعشقه وارتباطه لما يملك من تراث. أما عن تآليفه فها هو أستاذنا الجليل، علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله يقول عنه مثنياً على جهوده: إن موسوعته "تراث الأجداد" التي تقع في أربعة أجزاء: ، 1538صفحة، "تعد دراسة لجوانب مختلفة من تاريخ مأثوراتنا الشعبية... لقد تصفحت - يقول الجاسر: - المقدمة التي كتبها الأستاذ عبدالله بن خميس فوجدته قد أشار إلى أهم الملامح التي طرقها الأستاذ القويعي... فهو ضرب بسهم وافر بشتى المعارف والآداب، وخص التاريخ والأدب الشعبي باهتمام بارز، وركز على الفنون الشعبية والتراث والعادات والتقاليد، فجاء كتابه بما أشهد أنه لم ينسج على منواله مثله تقصياً وتدقيقاً وإظهاراً للخبايا." أي شهادة نطلب في هذا الشأن بعد شهادة علمي الجزيرة: الجاسر والخميس؟! ثم يختم الجاسر مقاله الطويل عن القويعي فيقول: "ما أحواج الأمة إلى أن تقدر أبناءها العاملين". ومن ذا الذي لا يضم صوته عالياً إلى صوت المرحوم الجاسر ويدعو إلى تكريم الأستاذ القويعي؟. ثم ها هو أستاذنا الجليل معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر لا يقل احتفاء بالقويعي عن سابقيه حين يقول: "أبو سعد: عاشق التراث، تعلق به، بحث عنه، جرى وراءه، غاص على مظانه، أكرمه بجمعه إياه، أسكنه من نفسه واسع صدره، وفي بيته أفسح له مكاناً حتى أصبحت مأثوراته هي ربة الدار وغيرها ضيف عليها... شغلت منه الفكر، وأخذت منه المال واستنفدت الجهد." هكذا كانت حياة القويعي إذاً مخصصة للتراث، مفرغة له بعد هذا لا يسعني إلا أن أضم صوتي إلى من ينادون بتكريم هذا الرجل المجاهد في تخصصه طوال عمره المديد والممتد إن شاء الله. أدعو - واثقاً (إن شاء الله) في الإجابة والاستجابة - الهيئة العليا للسياحة أن تقوم بتكريم الأستاذ القويعي ولعل أقل تكريم له يكون أولاً باقتناء متحفه وجعله نواة لمتحف كبير ضخم يحمل اسمه. بل أدعو الهيئة الموقرة إلى اقتناء كل المتاحف الخاصة المشابهة، ولعل متحف الأستاذ المرحوم سعد المحيميد في شقراء يعد أيضاً واحداً من أكبر المتاحف الخاصة في المنطقة. إن احتواء الهيئة العامة للسياحة لهذه المتاحف يخدم أغراضاً ثلاثة: 1- حفظها من الضياع المحقق الأكيد. 2- تعريف هذا الجيل، والأجيال القادمة، بما تمثله من تاريخ اجتماعي عاشه آباؤنا وأجدادنا. ها هو معالي الدكتور الخويطر يركز على هذه النقطة إذ يقول: "ومن غير معرفة هذه الصلة معرفة تامة يحدث الانقطاع الطبيعي في التاريخ، ويضعف بذلك الاعتزاز بالأصول". 3- أليست هذه المتاحف تمثل تمثيلاً دقيقاً الحياة المحلية للمملكة قبل الثراء؟. أليست هذه المتاحف هي خير صورة نقدمها للسائح العربي والمسلم والأجنبي ممثلة التاريخ الاجتماعي لهذا الوطن. بلى حيا الله الهيئة العليا للسياحة وحقق على يديها طموح الوطن. كلية الآداب جامعة الملك سعود