يشكل ضعف مستوى دخل أساتذة الجامعات في المملكة قلقاً ملحاً، وتناقضاً بين الواقع المادي، وبين رفضهم البوح بسوء حالهم، لأن الشكوى في نظرهم تقليل من رسالتهم العلمية والفكرية والاجتماعية. ويعجز معظم أساتذة الجامعات عن تأمين أهم حاجات أسرهم المعيشية، ومن ذلك المسكن الخاص وهذه الحقيقة أحدثت شرخاً كبيراً في شخصية "الأستاذ الجامعي"، مما أدى إلى انكسارها معنوياً، فتوارت عن الأعين وسكنت برجاً عاجياً داخل البرج العاجي القديم (قاعة المحاضرات) مما أعاق تواصلها مع المجتمع، وجعلها تبث رسالتها من خلال موقعها الحالم بعيداً عن ملامسة الواقع الاجتماعي بدقة. إن الاستمرار في هذا الانكسار - إن لم يعالج سريعاً - مفض إلى مضاعفة المشكلة الشخصية للأساتذة، ومضاعفة تفاقم حالة الانفصام بينهم وبين الواقع وبينهم وبين مجتمعهم، فنخسرهم ويخسروننا . ودون أن نفتش كثيراً في خبايا تلك المشكلة، سنجد أن ضعف كادر أعضاء هيئة التدريس بجامعاتنا، وانعدام الحوافز المادية والمعنوية الأخرى هما السبب الحقيقي لضعف دور الأستاذ الجامعي في بناء مجتمعه، وبعده عن الإسهام في صناعة القرار الاجتماعي والاقتصادي السليم والمتوازن، تلك الصناعة التي من شأنها أن تدفع بعجلة التنمية والتقدم إلى الأمام وتحقق للوطن والمواطن الأهداف المنشودة المبنية على دراسات تخصصية بعيداً عن "الارتجالية" التي تضر بالمجتمع . إن سوء وضع الأساتذة "مادياً" و"معنوياً" سبب لهم قلقاً، وخلق ردة فعل كان لها أثر عميق، ومن ذلك انعدام أنشطة الإنتاج البحثي الجامعي الجاد والمؤثر في تنمية المجتمعات وتطوير الدول. لقد انكفأ أكثر هؤلاء الأساتذة على أنفسهم، بينما اندفعت أقلية منهم إلى رفع أصواتهم بالمطالبة بتحسين الكادر وبزيادة دخولهم الشهرية لتتساوى - على أقل تقدير - مع رواتب طلابهم الذين درّسوا بعد تخرجهم في التعليم العام ففاقت رواتبهم رواتب أساتذتهم كثيراً، هذه المطالبات مع أنها جاءت متأخرة بعد أن بلغ بهم السيل الزبى، إلا أنها أيضا كانت تدب دبيباً صامتاً في استحياء. ضعف الكادر وغياب الحوافز لم يؤثرا على قلة البحوث العلمية فحسب، بل أديا إلى تسرب عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس إلى قطاعات أخرى، فيما ركض من بقي منهم وراء مصدر آخر للعيش يرفد به راتبه الذي لم يعد كافياً لتلبية نصف حاجات أبنائه، وهذا كان له أثر كبير على عطاء هؤلاء الأساتذة، يضاف لذلك عدم وجود معايير ثابتة تجمع نظام الجامعات المالي، فهناك جامعة تمنح بدل سكن وأخرى تقر بدل حاسب، وجامعات محرومة من هذا وذاك، وكذلك فالبدلات التي تمنح لرؤساء الأقسام أو غيرهم تعتبر ضعيفة، هذا غير التفاوت حتى في معايير الترقيات وطريقة تطبيقها، فجاءت هذه العوامل مجتمعة لتشكل عائقا في مسيرة جامعاتنا، وهذا كان أقوى الأسباب التي جعلت جامعاتنا في مؤخرة ترتيب الجامعات العالمية، وهي حقيقة يؤيدها الواقع الملموس مهما حاول بعض المسؤولين تبريرها بتصريحات لم يعد المتلقي الفطن يثق بها كثيراً. ضعف الكادر "الرياض" استطلعت الوضع المعيشي لأساتذة الجامعات، فجاءت المفاجآت لتكشفت عن حقائق مسكوت عنها. وفي البدء وصف الدكتور إبراهيم عسيري عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى معاناة أعضاء هيئة التدريس ب" المريرة". وقال إن ضعف الكادر الجامعي له أثره على أسرة عضو هيئة التدريس، وعلى بحوثه ومشاركاته العلمية مدللاً على ذلك بأنه دعي إلى أحد المؤتمرات فكان الشغل الشاغل هو البحث عن مكان مناسب، لا يرهق راتبي الهزيل، الذي أنهكته أقساط السيارة من جهة، وإيجار المنزل من جهة أخرى، أضف إلى ذلك أن الانتداب الذي يمنحه الأستاذ الجامعي في اليوم لا يغطي أجرة ليلة واحدة بفندق يليق بعضو هيئة تدريس !! ناهيك عن مصاريف التنقل وغيرها، بل أذكر أنني اعتذرت عن أحد اللقاءات الهامة إذ أنه بعد "حسبة يسيرة" اتضح لي أنني سأدفع من جيبي مبلغا ليس باليسير !! وهذا لم يكن هو المانع الحقيقي فطالما اعتدنا على ذلك، ولكن رأيت أن هذا سيكون على حساب مصروف أبنائي الذين لا ذنب لهم إلا أن أباهم كان أستاذاً جامعياً فاعتذرت عن حضور ذلك اللقاء المهم. ويتحدث عضو هيئة تدريس آخر تحتفظ "الرياض" باسمه وموقع عمله، وقال: من يلتحق في السلك الجامعي يضع نصب عينيه أنه حامل رسالة سامية، وأن عليه باستمرار أن يطور نفسه علميا بدءا من مواصلة الدراسة في مراحلها العليا الثلاث، ثم بعد الدكتوراه يواصل أبحاثه من أجل أن يقدم لوطنه ومجتمعه ما يستطيعه، وكل ما في هذه الدراسة مكلف جدا، بدءا من مكان الدراسة، إضافة إلى تكاليفها ومصاريف السكن والتنقل والمعيشة، وثمن الكتب والمراجع والأبحاث، وكثرة الرحلات في طلب المعلومة المهمة، وكل ذلك يثقل كاهل عضو هيئة التدريس قياساً على دخله المتواضع وغياب الحوافز المادية المشجعة، ولأنني أحد الذين يعتمدون على راتبهم فقد لحقتني ديون كثيرة فاضطررت للتقسيط. وأضاف في إحدى المرات ذهبت لأخذ سيارة أقساط لأبيعها نقداً، ثم أصرف ثمنها على مصاريف دراستي وبحوثي، وتفاجأت لحظة التوقيع أن الطرف الثاني البائع هو أحد طلابي؛ فانسحبت، وكان الموقف صعباً للغاية، وتمنيت وقتها أن يرى المسؤولون ذلك الموقف الحرج فيعرفون أن الأستاذ الجامعي قد ضرب في مقتل!!. الضعف المادي يقوق من رسالتهم ويتحدث الأستاذ سامي بن غازي العنزي عضو هيئة التدريس بجامعة الحدود الشمالية عن معاناة الأستاذ الجامعي فيقول: يعاني أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السعودية ظروفهم المعيشية الصعبة والتي تعوقهم عن أداء رسالتهم السامية نحو مجتمعهم، حيث إن أعضاء هيئة التدريس في الجامعات يحملون مخزونا فكريا وثقافيا يجعلهم قادرين على توجيه دفة مجتمعهم والسمو به إلى المأمول، ولكن الصراع الذي يعيشونه ويخالطه شيء من "الحزن" جعلهم يشعرون أحياناً بضعف التقدير لأشخاصهم. الراتب لا يرقى الى طموح الأستاذ.. أما مسؤولو الجامعات فقد بدوا أكثر تفاؤلاً، وإن لم يستطيعوا إنكار تردي مستوى دخل الأستاذ الجامعي، حيث تحدث للرياض في البداية الدكتور سعد الحريقي مدير جامعة الباحة الذي أجابنا عن سؤالنا له حول هذه القضية بسؤال آخر وجهه إلي قائلاً: هل أنت - كعضو هيئة تدريس - راض عن راتبك؟ فقلت: لا، قال: إذا القضية واضحة، وقد كثر الحديث عنها، والدولة تولي هذا الجانب عنايتها، وخادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - مهتم بهذا الشأن، وهناك تصريحات للمسؤولين لا أقول عن السلم ولكن عن دراسة تحسين وضع أعضاء هيئة التدريس،والدولة مهتمة بالتعليم العالي والدليل تخصيص 25% من ميزانية الدولة للتعليم العالي، وهذا يوضح اهتمام ولاة الأمر بالتعليم، وبدون شك فإن من أهم دعائم النهوض بالتعليم النهوض بالقائمين على التعليم وخاصة أعضاء هيئة التدريس، ولعل هناك أخبارا طيبة بإذن الله في القريب العاجل. واضاف أن مستوى دخل عضو هيئة التدريس لا يرقى إلى ما يطمح له، لأن عليه التزامات كثيرة؛ فمثلا عندما يعود من بعثته بعد عدة سنوات ويعين على وظيفة أستاذ مساعد فإن مرتبه قد لا يساعده، فيضطر أحياناً للاستدانة أو على الأقل قد يصعب عليه توفير جزء من راتبه لبناء مسكن أو ما شابه ذلك، لكن المستقبل قد يكون مبشرا بإذن الله، وأنا أحكم على ذلك من خلال رؤيتي لاهتمام الدولة بالتعليم العالي وبمنسوبي التعليم العالي، ولعل في الأيام القادمة ما يعالج كثيراً من السلبيات الموجودة الآن. دعنا نعيش على الأمل..! أما الدكتور عبدالعزيز السراني وكيل جامعة طيبة فيقول: من المؤكد أن الأستاذ الجامعي عليه التزامات كثيرة تبدأ من التدريس وتنتهي بالبحث العلمي، والبحوث المتعلقة بخدمة المجتمع فهو يشترك في مشاريع كثيرة لكن العائد المالي مقارنة مع بعض السلالم الخاصة بالمدرسين وغيرهم أقل من المأمول، حيث نجد أن الفوارق كثيرة وكبيرة جدا قياسا على ما يتحمله عضو هيئة التدريس في الجامعات، وخاصة في ظل التنافس الحالي بين الجامعات، فنحن نجد صعوبة في عملية التعاقد وعملية استقطاب بعض أعضاء هيئة التدريس، لأنه أصبح هناك تنافس بين الجامعات الخليجية وغيرها على استقطاب الأعضاء الأكفاء، وعضو هيئة التدريس السعودي يتطلع إلى أن ينظر إلى هذا الموضوع بما يناسب كفاءته، ولعل الأخبار التي تتناولها الصحف بين لحظة وأخرى تبشر بما يجب أن يحصل عليه هذا العضو مما هو أهل له. وحول سؤالنا له عن هذه الأخبار وأنها كثيراً ما تطالعنا منذ سنوات وتبشر بالتحسن، بينما الحقيقة أن أي تقدم لم يحدث ؛ فيجيب السراني: دعنا نعيش على الأمل، والمسلم دائما متفائل، والتفاؤل يعقبه خير كبير، هي فعلا أخذت وقتاً طويلاً بسبب مداولتها في مجلس الشورى وأيضا في بعض المجالس الأخرى، ولعل ذلك في صالحها لكي تصل إلى المستوى الذي يرضي طموح أعضاء هيئة التدريس، ولعلها لن تطول بعد الآن فأنا متفائل، وفي تصوري أنها ستكون قريبة جداً، خاصة وأن خادم الحرمين الشريفين قبل مدة قد أمر بتكوين لجنة لدراسة هذا الموضوع، وقد نكون وصلنا إلى نهاية الطريق بهذا الأمر، ولعل تغيير اللوائح المالية بالجامعات حاليا والتي تدرسها المجالس المختلفة حتى درست في مجلس الشورى تجعلها تخرج بصورة موحدة ومن خلالها يتحقق ما يؤمله عضو هيئة التدريس، وسنجد بإذن الله ما يطمئن القلوب. حرج الجامعات الجديدة .. وحول زيادة عدد الجامعات وكون ذلك لا يتناغم مع وضع أعضاء هيئة التدريس مما قد يخلق معاناة جديدة ويفاقم من هذه المشكلة، قال السراني: الجامعات التي بدأت حديثاً لابد أن تستقطب كفاءات، والاستقطاب لا بد أن يكون له محفزات ومميزات، وهذا الجانب يجب أن يؤخذ بالاعتبار، لأن هذه الجامعات تحتاج كليات نوعية سواء طب أو هندسة أو غيرها من التخصصات، ولا يغيب عنا أن بعض أعضاء هيئة التدريس في المدن الكبرى لديهم بعض الاستشارات في بعض الشركات، وفي بعض المؤسسات، ولهم جهود علمية أخرى، وهذا العضو لو ذهب إلى مكان آخر بعيد عن مركز هذه المصادر فإنه سيفقد ذلك، وإن لم يعط بدلاً مجزياً فلن يحضر، ومن هنا فان مسؤولي هذه الجامعات عليهم وضع حلول جيدة لهذه المشكلة، فنحن نحتاج رؤساء أقسام سعوديين ونحتاج عمداء سعوديين، وأن يكونوا من ذوي الرؤية، فمن ينشئ عمادة أو كلية يحتاج رؤية واضحة في المناهج والخطط، فالكليات تنشأ بمناهجها كاملة وهي التي تقوم بها. وعن أثر ضعف الكادر والحوافز في تأخر تصنيف جامعاتنا قال السرايا: البحث يحتاج إلى دعم، ولا يمكن أن يكون هناك بحث دون دعم، ولو أخذنا إحصائية ما ينفق في ميزانية الجامعات على البحث العلمي فسنجده قليل، وإن كانت وزارة التعليم العالي في السنتين الأخيرتين بدأت في دعم بعض البحوث والبرامج، وبدأت بعض الجامعات تهتم بهذا الأمر وإن كان لا يزال في أول الطريق لكنهم وضعوا أقدامهم على أول الطريق الصحيح. وأمام هذه المعاناة المادية ماذا ننتظر من عضو هيئة تدريس يشغل فكره سكن أطفاله ومعيشتهم؟، وهل ننتظر منه ان يكون منتجاً؟.