من عظمة هذا الدين توافقه مع كل زمان ومكان على أساس نصوص شرعية منبعها الكتاب والسنة. هذه النصوص وإن كانت ثابتة من ناحية الأحرف والكلمات غير أنها متجددة من حيث الفهم والإدراك. فقدرة الإنسان على الفهم والحكم على الشيء نابعة من تصوره لذلك الشيء. وتصور الإنسان وإدراكه نابعان من الأحداث المتجددة في عالمه الذي يحيا فيه. وهنا تظهر قدرة الله ورحمته بأن ارتضى لنا دينا ثابتة أصوله، متكيفة مفاهيمه مع المستجدات إلى قيام الساعة لا تناقض ولا اختلاف بين الواقع المتجدد والنصوص الثابتة (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). في ريعان الصبا عندما كنت في المرحلة المتوسطة استوقفني قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء) فأتيت والدي رحمه الله بدليل دوران الأرض، فما كان منه إلا أن أحالني إلى تفسير الشنقيطي رحمه الله الذي فسرها ، على طريقته بتفسير القرآن بالقرآن، على أن ذلك يكون يوم القيامة. (هذا إن لم تخني الذاكرة فأنا أكتب في الطائرة فوق أرض الصين). فراجعت والدي رحمه الله بأن وصف الله تعالى للرؤية بلفظ (تحسبها) ووصفه تعالى للموقف باستخدام الصنع غير متناسب مع أوصاف أهوال القيامة. فالجبال تسير يوم القيامة وتنسف حقيقة لا تخيلا وكذلك لفظ الصنع لا يتناسب مع التدمير العام للأرض وتساقط السماء وتسجير البحار، فلعل هذه الآية من الإعجاز العلمي للقرآن. فما كان من والدي رحمه الله وأسكنه وسيع جناته إلا أن نهرني، آمراً إياي أن لا أتجاوز آراء العلماء. وعندما بلغت ريعان الشباب أثرت الموضوع مرة أخرى مع بعض أهل العلم فحاجوني بمرور الجبال وأن هذا يلزم منه ثبات الرائي. فحاججتهم بأن مرور الجبال أتى مطلقا في الآية ولم يقيد، وعليه فإن ثبات الرائي ليس لازما عنه. وإنما قد يصح أن يكون ثبات الرائي لازما عن مرور الشيء عليه إذا قيد بقيد كقول الشاعر (تمر عليك الأبطال كلمى هزيمة... ووجهك وضاح وثغرك باسم). أردت بهذه المقدمة أن أمهد فكر القارئ الكريم بأن النصوص الشرعية ،رغم ثباتها، تحمل في طياتها إعجاز الإسلام وصلاحيته كخاتم الأديان، ومقدرته على الانتقال من فهم صحيح مناسب لحقبة معينة إلى فهم صحيح آخر مناسب عند تغير الوقائع دون تغير النص وهنا تتجلى قدرة وعظمة الخالق وضعف وجهل المخلوق. ويجب أن ندرك بأن الانتقال من فهم إلى آخر لا يكون سهلا ولا مرحبا به ،فلا بد من مقاومة التغير واتهام التجديد والمجددين (رغم أنه أصل في الشريعة). وهذه المقاومة في أصلها محمودة ومشكورة، فهي من باب حماية جناب الدين والحفاظ عليه من التغير والتحريف. فلا ضرر ولا عيب ولا عجب بأن نرى رفض فكرة دوران الأرض لعدم تصور المسألة آنذاك وكذلك قياس أوراقنا النقدية على الذهب والفضة لعدم تصور ديناميكية الاقتصاد المعاصر، والأمران كلاهما صعب تصوره وإدراكه. ولكن شتان بين المسألتين. فالأولى لا تعلق للعباد والبلاد فيها لا من باب العبادات ولا المعاملات وأما الثانية فخطأ التصور وشدة المقاومة أديا إلى لوي أعناق النصوص وهجران أقوال السلف وتفسيق المخالفين والتضييق على البلاد والعباد والتلاعب بالحيل وإعادة الدين إلى عصر القرون الوسطى للفقه الإسلامي (وذلك عندما لجأ المفتون للحيل لتحليل ما ألزموا به العباد بما لم يلزمه الله عليهم من وقوع الطلاق الثلاث في جلسة واحدة حتى جدد الله الدين على لسان شيخ الإسلام وأظهره على يد الشيخ ابن باز رحمه الله) . عندما جعل الشارع الربا في الأصناف الستة ولم يظهر العلة لم يكن ذلك عبثا ولا نسيانا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، مما أدى إلى اختلاف العلماء في علة الربا اختلافا شديدا. وحتى الحكمة عندما لم يبينها الشارع لم يكن ذلك عبثا ولا نسيانا تعالى سبحانه عن ذلك، (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحد يقولون لا نعرف حكم (أي حكمة) تحريم الربا وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم فلم يروا فيه مفسدة ظاهرة"). الاقتصاد إلى عهد قريب كان قائماً على أن ملاك الأرض والماشية والعمران والمصانع هم أنفسهم ملاك الذهب والفضة. ومع الثورة الصناعية وتطور عمل البنوك وانتشارها، اختلفت التركيبة الاقتصادية بالكلية. فأصبح أهل الذهب والفضة في جانب، والقادرون على الاستثمار في جانب آخر.. ومواكبة لهذا التطور تسارع التعامل بالأوراق النقدية بدلا من الذهب والفضة التي لم تلبث، أي الأوراق النقدية، حتى انفصلت عن الذهب وأصبحت هذه الأوراق سلعة من السلع تباع وتشترى كغيرها من السلع بل إن سوقها هو أعظم سوق في العالم يزيد قيمة التداول فيه على ترليون دولار يوميا. وهذا قد كان في علم الله وأصبح الآن تبيانا وإيضاحا لحكمته ، في تشريعات البيوع والسلم والمضاربة والأموال الربوية التي خفيت على الكثير من السابقين واللاحقين. وهو أيضا من رحمة الله بالمسلمين وتوسيعه عليهم. أنى تأمل الناظر العارف تتبين له حكمة عدم إظهار علة الربا من الشارع وتركها موسعة لتشمل المستجدات التي تجد في حياة الناس وهي في علم الله وقدره ولكن لا يتسعها إدراك البشر وأفهامهم حتى يروها مثلها مثل الخلافة وغيرها من معاملات العباد ودوران الأرض وغيرها من آيات الله الكونية. فالآن في أمريكا مثلا، البنوك وحدها تمول المشاريع بما يقارب ستة ترليونات سنويا (أي ما يقارب ستة آلاف ضعف ميزانية المملكة). فازدهرت البلاد وأصبح كل شخص طبيعي له دخل ولو بسيطاً يمللك منزلا ومركباً. وهنا في بلادنا جُمد اقتصادنا على أن ملاك الأوراق النقدية هم المستثمرون وباقي الأمة إما عالة على الدولة أو فقراء. فخُلقت الطبقية المقيتة واستنزفت أموال الدولة بإنفاقها على استهلاك الأمة وكل ذلك لعدم تصور حقيقة الأوراق النقدية التي أثبتت حقيقتها بأن السلف جميعهم على اختلاف مذاهبهم واستنباطاتهم لعلة الربا أنهم هم أسلم وأحكم وأعلم من الخلف. وقد بدأت الآن تتضح معالم الاقتصاد المعاصر وأصبحنا ندرك الواقع النقدي المعاصر ولكننا للأسف لم نرجع إلى أقوال السلف بل إلى أصحاب السبت. @ أستاذ الاقتصاد المالي - جامعة الأمير سلطان