العنوان: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها. المؤلف: جورج كانغيلام. ترجمة: محمد بن ساسي. الناشر: المنظمة العربية للترجمة. توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية 2007عدد الصفحات: 711صفحة. *يرى جورج طرابيشي أن قيام فلسفة عربية غير ممكن في الظروف الحالية لعدة أسباب من أهمها هنا أن العلم لا يُنتَج في الساحة العربية والفلسفة اليوم مرتبطة بالمنتج العلمي ارتباطا وجوديا. لا بد هنا من التنبيه السريع للقارئ غير المتخصص أن وصف العلم هنا يطلق على علوم الطبيعة والتكنولوجيا تحديدا. العلم لا ينتج في الساحة العربية والعقل العربي لا يفكر بطريقة علمية هذه ملاحظات من اليسير جدا مشاهدتها والتأكد منها. لا ينطبق هذا الوصف على العقل الشعبي فقط بل حتى يتسع ليشمل العقل العالِم، عقل المثقفين والأكاديميين. حكا المفكر المصري زكي نجيب محمود كثيرا عن زملائه أساتذة الجامعة في التخصصات العلمية الذين يدرسون الطلاب في الصباح التفكير العلمي والمنهجية في التفكير ويذهبون في المساء للسحرة والمشعوذين يبحثون عندهم عن حلول لمشاكلهم. التفكير العلمي هو التفكير العقلاني المنطقي. أي التفكير الذي يسير على قوانين العقل والمنطق. ليس هذا الوصف مغلقا بقدر ما هو متسع لكل المناهج التي تتفق على هذه الجزئية رغم اتساعها. لسنا هنا أمام تفريقات العلماء الدقيقة التخصصية بين ما هو علمي وما هو غير علمي بقدر ما نحن معنيون بالحديث عن التفكير الواعي الذي يستخدم فيه الإنسان منهجية مدركة للتفكير دون الاستلاب للخرافات والأفكار الموروثة. التفكير العلمي يتضمن تقييما ومراجعة للأفكار بعيدا عن تأثير السلف والوراثة فيها. يضع فؤاد زكريا البحث عن الأسباب والدقة والتنظيم كأبرز سمات التفكير العلمي. للعلم فلسفة تراجعه وتفحصه. فلسفة العلم مهمتها نقد أسس ومنطلقات العلم الفكرية. هي بالتحديد معنية بمراقبة التفكير العلمي والنظر في منطلقاته الأولى ومناهجه الفكرية. كما أنها معنية بتاريخ العلم وتحولاته وتطوراته. فلسفة العلم أحد أهم المجالات اليوم، وتزداد قيمتها ،كما يقول آينشتاين، في الفترات التي يواجه العلم فيها أسئلة كبرى ومناطق جديدة. في اللحظات التي يصبح العلم كما هو عليه الآن عاجزا أو حائرا أمام مساحات جديدة، في هذه اللحظات التي تحدث فيها الثورات / القطيعات العلمية تحضر الفلسفة، فلسفة العلم بقوّة. صدر مؤخرا عن المنظمة العربية للترجمة كتابان مهمان في فلسفة العلم ومن الجميل أنهما ينتميان إلى مدرستين مختلفتين. الأول كتابنا هذا الأسبوع "دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها" للفيلسوف الفرنسي جورج كانغيلام (1904- 1995). أما الثاني فهو كتاب "بنية الثورات العلمية" للفيلسوف الأمريكي توماس كون (1922- 1996) وهو أحد أهم الكتب في فلسفة العلم في القرن العشرين.لدينا كتابان مهمان الأول من المدرسة الفرنسية والثاني من المدرسة الأنجلو سكسونية. المدرسة الفرنسية تعتبر تاريخ أي علم هو "خلاصة قراءة مكتبة مختصة بداية من الألواح والبرديات إلى الأقراص المغناطيسية، مرورا ببداية الطباعة، وكأنها مجال متّصل نستطيع أن ننقل عليه تبعا لأهمية اللحظة نقطة انطلاق التقدم، وسيكون طرف التقدم الحالة الراهنة للعلم أو للاهتمام". يتكون الكتاب من مقدمة للمترجم ومقدمة مهمة للمؤلف وثلاثة أقسام. الأول: احتفاءات وفيه دراسات احتفائية بكوبرنيك وغاليليه وفونتونال. القسم الثاني: تأويلات وفيه دراسات معمقة لأوغست كونت وتشارلز داروين وكلود برنار وغاستون باشلار. القسم الثالث بحوث في البيولوجيا والمعرفة الجديدة للحياة وعلم النفس والطب. كتبت هذه الأعمال في فترات متفاوتة ولكنها تنتظم داخل اهتمام واحد، تاريخ العلوم وفلسفتها. سنهتم هنا أكثر بالمقدمة النظرية التي تطرّق فيها كانغيلام لعدة موضوعات مهمة تحت عنوان موضوع تاريخ العلوم. وهي مقدمة تشرح فيها فهمه لتاريخ العلم وفلسفته وللكثير من القضايا المتعلقة بالاتصال والانفصال في تاريخ العلم ولفكرة تراكم العلم وقضايا كثيرة أساسية من نوع ما هو تاريخ العلم ولماذا وكيف يتم إنجاز هذا التاريخ. ما هو تاريخ العلم؟ يستعرض كانغيلام أكثر من وجهة نظر في تاريخ العلوم فديكتارويس يعتقد أن تاريخ العلوم ليس ذاكرة العلم فقط، إنما هو كذلك مختبر الإيبستيمولوجيا. والإيبستمولوجيا هنا تعني فلسفة العلوم وتتميز الإيبستيمولوجيا الفرنسية أو الأسلوب الفرنسي في الإيبستيمولوجيا بدراسة النظريات العلمية بمعزل عن محيطها الخارجي باعتبار أن للنظريات تاريخها الخاص في تكونها وترابطها، لأن نشأة أي مفهوم يفترض الكثير من الأعمال التي تبدو في ظاهرها متباعدة وحتى متنافرة في حين أنها تهيئ لبعضها البعض. ومن جهة أخرى يرى مغدولان أن تاريخ العلم هو "أن نضع الفكر الإنساني في محك التجربة... وأن ننجز نظرية تجريبية للفكر الإنساني". ومن جهة وضعية يرى لافيت أن تاريخ العلم هو "مجهر ذهني". أما كانغيلام فيرى أن تاريخ العلم كمدرسة أو مؤسسة تصدر فيه الأحكام على ماضي المعرفة وعلى معرفة الماضي. إلا أن الأمر هنا يقتضي قاضيا. إن الإيبستيمولوجيا (فلسفة العلوم) هي المدعوّة إلى أن تقدم للتاريخ مبدأ الحكم، وذلك بأن تعلمه آخر لغة نطق بها علم ما وبأن تسمح على هذا الأساس بأن يتراجع إلى الماضي، وإلى حدود اللحظة التي تكف فيها هذه اللغة عن أن تكون مفهومة أو قابلة للترجمة إلى لغة سابقة أقل صرامة وأشد بساطة. لماذا تاريخ العلم؟ هذا سؤال مهم يحيلنا مباشرة إلى الهدف من التأريخ للعلم والغرض من ورائه وهنا سندخل إلى مناطق شائكة تتعلق بمدى خضوع هذا العلم لأهداف غير علمية ربما. يقول كانغيلام أن ثمة ثلاثة أسباب لإنجاز تاريخ للعلوم: سبب تاريخي، وسبب علمي، وسبب فلسفي. يكمن السبب التاريخي في ممارسة الاحتفاءات التذكارية في واقع التنافسات المدعية للأبوة الفكرية وفي الصراعات حول الأولوية. إذن السبب الأول متعلق بالعمل الأكاديمي المرتبط بتحديد الأولويات والتسلسل العلمي للنظريات. السبب الثاني سبب علمي أكثر صراحة يختبره العلماء بوصفهم باحثين، وليس بوصفهم أكاديميين. وهنا يعني كانغيلام أن الباحث حين يكتشف اكتشافا لم يسبق إليه ويحيّر العلماء نظراءه فإنه يبحث في التاريخ عن سند له يقوي حجته ويدعمها. فعل ذلك داروين وغيره من العلماء. السبب الثالث لتاريخ العلوم هو سبب فلسفي يتعلق بأنه من دون المرجعية الإيبستيمولوجية سوف تكون نظرية المعرفة تأملا في الفراغ، ومن دون العلاقة بتاريخ العلوم ستكون الإيبستيمولوجيا صنوا لا لزوم له أصلا للعلم الذي تزعم الحديث عنه. فعلا لا يمكن الحديث عن فلسفة علم دون تأريخ للعلم باعتبار أن فلسفة العلم هي تلك الأسس المتحولة والمتغيرة للعمل العلمي. كيف نؤرخ للعلوم يحيلنا سؤال كيف إلى المنهجية. منهجية تأريخ العلوم ومن المؤكد أن هناك اختلافا واسعا حول هذه المنهجية تبعا للاختلاف حول العلم والتاريخ على حد سواء. يحيل كانغيلام على الكتاب الأنجلوساكسون الذين يقسمون التأريخ للعلوم بالتأريخ من الخارج والتأريخ من الداخل. المذهب الخارجي هو طريقة في كتابة تاريخ العلوم باشتراط عدد من الأحداث، التي يتم تسميتها بالعلمية تقليدا أكثر مما هو نتيجة للتحليل النقدي، في علاقتها بمصالح اقتصادية واجتماعية وبمقتضيات وممارسات تقنية وبأيديولوجيات دينية أو سياسية. هو الجملة ماركسية مخففة. أما المذهب الداخلي، ويعتبره المذهب الأول مثاليا، فيتمثل في الاعتقاد بأن تاريخ العلوم لا يوجد، إذا لم نضع أنفسنا داخل الأثر العلمي ذاته، من أجل تحليل المسالك التي بها يبحث عن تلبية المعايير الخاصة التي تسمح بحده بوصفه علما لا بوصفه تقنية أو أيديولوجيا. ومن هذا المنطلق يجب لمؤرخ العلوم أن يتبنى موقفا نظريا إزاء ما يحفظ على أنه واقع نظري، ونتيجة لذلك أن يستعمل فرضيات وبراديغمات (نماذج) كما يفعل ذلك العلماء أنفسهم. بينما يرى كانغيلام أن تاريخ العلوم ليس علما وموضوعه ليس موضوعا علميا. وأن الاضطلاع بتاريخ العلوم، بالمعنى الأكثر إجرائية للفظ، هو وظيفة من وظائف الإيبستيمولوجيا الفلسفية، وليست هذه الوظيفة الأسهل. يعبر كانغيلام عن طريقته في التأريخ للعلوم بالتالي "إنها تلك الطريقة التي تسعى إلى جعل جدة وضعية ما قابلة للإدراك، ومؤثرة، وكذا الأمر بالنسبة إلى سلطة القطيعة المميزة لابتكار ما". هل العلم تراكمي؟! هناك إجابة لها قدر أكبر من الانتشار والقبول خصوصا داخل المدارس العلمية وهي أن العلم تراكمي وأن النظرات الجديدة ترتكز على نظريات سابقة وتعتبر تطورا وامتدادا لها. كانغيلام كامتداد لمدرسة باشلار التي تقول بالانقطاع لا بالاتصال في تاريخ العلم يرى أن المهمة النظرية الأولى تتحدد في استبعاد ما يسمى "فيروس السلف المبشر" أي أن هناك دائما عالماً سابقاً قد تنبأ بالنظريات التي تلحق به. يستبعد كانغيلام ذلك الفيروس لأن القول بالسلف المبشر يفقد تاريخ العلوم كل معناه، لأن العلم سيفقد عندئذ بعده التاريخي. يرى كانغيلام أن القول بالسلف المبشّر هي الطريقة الأقرب للنفس في ممارسة التاريخ والأسهل بوصفها نوع من التسلية "فالتسلي بالبحث والعثور والاحتفاء بالسلف المبشّر هو العلامة الأشد سطوعا على العجز عن النقد الإيبستيمولوجي". ويلاحظ كانغيلام أنه "قبل أن نضع طرفين لمسارين على طريق، يتوجب بادئ ذي بدء التحقق من أنه هو الطريق نفسه". وفي عبارة مهمة يواجه كانغيلام فكرة السلف المبشر بالقول "إن مفهوم السلف المبشّر هو مفهوم خطير جدا بالنسبة إلى المؤرخ. إنه لمن الحق دون شك أن للأفكار نموا يكاد يكون مستقلا، بمعنى أنها تولد في فكر ما وتنضج وتأتي أكلها في فكر آخر، وأنه من الممكن على هذا الأساس أن نقوم بتأريخ المسائل وتأريخ حلولها، غير أنه من البديهي أن لا احد اعتبر نفسه سلفا مبشرا لغيره، ولا أحد استطاع القيام بذلك، وحين ننظر إليه بما هو كذلك، فإننا نمنع أنفسنا عن فهمه بطريقة مثالية". اقتصرنا هنا على المقدمة النظرية وإلا فإن بقية أقسام الكتاب تزخر بدراسات ذات منهجية عالية وقدرة واضحة على التفكير العلمي والمسائلة والنقد تستحق القراءة.