تتمثل إحدى أروع صور تشابه المعاني في الشعر العربي وأكثرها إثارة في أن البيت(السطر الشعري المقسم إلى شطرين) ، وهو الوحدة الرئيسة والأساسية للقصيدة، يعني في نفس الوقت المسكن أو (المنزل) ولذلك فلا يمكن ترجمته ببساطة إلى "السطر". وبالنسبة لقدماء العرب من سكان الصحراء وهم البدو الرحل الذين ما يزالون بيننا فالبيت أساسا يعني الخيمة وهي حقيقة تفسر سبب اختيار عالم اللغة الخليل بن أحمد ، واضع علم العروض، للخيمة العربية كنموذج له."1" بعد ذلك قام المثقفون بتجميع هذا النموذج المحلي عن طريق مناقشة تطور الفكرة الرئيسة لشكل القصيدة الكلاسيكية كما لو أنها تتشكل من "العمود" وهو ما يسند الخيمة ويقيمها. وحتى الآن فلا يزال مصطلح "الشعر العمودي"، الذي يعني حرفيا النظم الشعري الذي يتخذ العمود أنموذجا له، يستخدم لوصف جميع القصائد التي تقوم على البيت كنواة رئيسة في تكوينها رغم عدم دقة هذا الوصف. ومع ذلك فإننا اليوم لا نستطيع التمييز بسهولة بين الأبعاد الدلالية والشعرية للبيت، ليس لأن الخيمة القديمة قد قاربت على الاختفاء فحسب، ولكن لأن القصيدة الحديثة قد استبدلت بشكل كبير أنموذج البيت العربي بالسطر الغربي المختلف ثقافيا. وقد أثر التحول التدريجي الذي طرأ على الثقافة العربية منذ القرن الثامن عشر على الشعر العربي تأثيرا عميقا. واكتسب هذا التحول دعما جديدا قرابة منتصف القرن العشرين ففي ذلك الوقت تمت،أخيرا، مراجعة البنية الكلاسيكية للقصيدة بصورة بارزة مما خلق شكلين رئيسيين أحدهما يحتفظ بالميزات الرئيسة لبنية القصيدة الكلاسيكية والآخر يكسر هذا الشكل ليشكل ما أصبح يدعى، ولكن ليس بصورة دقيقة أيضا،بالشعر الحر"2". وقد حصل هذا التغيير الأخير تحت تأثير النقاد والشعراء الذين كانوا متأثرين بالحضارة الغربية بصورة كبيرة إما عن طريق السفر للغرب أو دراسة الأدب الغربي في ديارهم وقاموا بنقل هذه المعرفة للآخرين. وقد حدثت هذه التغييرات الهامة أولا في مصر ولبنان والعراق ولم يمض وقت طويل حتى حذت دول عربية أخرى حذوهم. وبطبيعة الحال فإن هذه التغييرات لم تمر دون أن تجابهها تحديات بل صاحبها معارضة صلبة وعارمة مما أثر على المنتج الشعري وفرض عليه التعديل والتغيير. كما أن معركة الكتب التي تلت ذلك تركزت حول شيء أبعد من تفاصيل العروض، فقد كانت معركة تتعلق بالمفاهيم الأساسية والقيم الثقافية فالتلاعب بالقصيدة عنى للكثيرين التلاعب بأس الثقافة وأصلها وانتهاكا لما هو مقدس، أكثر من كونه تغييرا لبيت القصيد بل هو تغيير لبيت الثقافة بوجه عام. وعلى الرغم من أن أوائل الشعراء الحداثيين في الأربعينيات والخمسينيات لم يتجاوزوا حقيقة الوزن الشعري أو يستبدلوه وأنهم كانوا يريدون ببساطة الانعتاق من البيت كوحدة مستقلة كاملة داخل القصيدة، واستبداله بالأسطر المتتالية مما يعطي الشاعر هامشا أكبر من الحرية وفضاء أكبر للحركة، فقد اعتبر الكثيرون هذا تعديا كبيرا على مكون أساسي من مكونات الهوية الثقافية العربية. وتذهب القصة المشهورة إلى أن الناقد المصري عباس العقاد قد رفض قصيدة كتبت على النمط الشعري الحديث حينما كان يرئس لجنة الشعر لمسابقة محلية في الخمسينيات وأصر على أنها تنتمي إلى لجنة النثر عوضا عن ذلك. الطريف في موقف العقاد أنه هو نفسه ينتمي إلى موجة مبكرة من الحداثة والتي أدخلت، ضمن تجديديات أخرى، نزعة ذات نكهة رومانسية غربية إلى ميدان الأدب العربي. وقد أصبحت مصر دولة رائدة في عملية التحديث التي عمت العالم العربي نتيجة لجهود أشخاص مثله، وهي عملية تعني في أساسها اعتناق النماذج الغربية في مختلف الميادين الثقافية والاجتماعية. وتعد مقاومة الشكل الشعري، في الوقت الذي يتم فيه قبول أشكال أخرى من الثقافة الغربية، من الأمور الطريفة التي تحمل الكثير من الدلالات لكونها تشذ عن القاعدة، وهو أمر ما يزال مستمرا في جوانب حيوية عدة في الدول العربية. وإذا كانت المفارقة واضحة في بلدان مثل مصر والتي كانت قريبة من النماذج الغربية في مناحي ثقافية متعددة، فإنها ساطعة على نحو أوضح في أماكن ظلت لوقت طويل بعيدة عن التأثير الغربي مثل شبه الجزيرة العربية."3" والجزيرة، أو "شبه الجزيرة العربية" كما تعرف في الغرب أحيانا تعد المهاد الثقافي للثقافة العربية من ناحية تاريخية. وقد ظلت المكان الذي يمد مفردة "عربي" بأصلها اللغوي والدلالي على مر العصور. وحينما بدأت الحداثة في هز المشهد الحيوي الساكن والهادئ في الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظلت الهوية العربية محتفظة بقوة وصلابة يصعب إيجادها في مكان آخر. وحتى يومنا هذا فإن هناك عددا هائلا من الظواهر الثقافية والاجتماعية في الجزيرة العربية التي يصعب أن تكون عرضة للتغيير، ناهيك عن تغييرها جذريا أو بالكلية. وسواء نظر أحدهم إلى المظهر الخارجي (الذي لم يكن عرضة للتغريب أو التفرنج) وهو الزي التقليدي، أو إلى الأنماط التي تميز بشكل كبير الهندسة المعمارية، أو بشكل أعمق إلى أنماط الثقافة الشفاهية السائدة فإنه سيجد أن المشهد يوحي بحرص مشوب بالقلق على بقايا الهوية العربية. إن الزوار الجدد للمملكة العربية السعودية (التي يحتفظ الجزء الثاني من اسمها بالدلالة التاريخية المميزة للجزيرة) أو إلى أي من الدول الخليجية الخمس لابد أن يستوقفهم ويسترعي انتباههم الموقف الظاهري المنطوي على مفارقة التاريخية ، والتي يزداد وضوحها وطرافتها حينما يتأمل المرء في الجانب الآخر من العملة، أي الدرجة العالية نسبيا من الحداثة التي وصلت إليها هذه البلدان في العديد من القطاعات الحيوية الأخرى."4" ومن المناظر المألوفة في السنوات الأخيرة في المدن الحديثة في دول الخليج الأسلوب المعماري اللافت للنظر والذي يدمج طراز الفيلا الغربية والخيمة التقليدية في المنتصف. وعادة ما تستخدم الخيمة بشكل رئيس كقاعة استقبال، تماما كما كان الحال لدى البدو. ويخلو هذا التركيب من أي تعارض، كما هو حال حضور الأدب الفلكلوري المشتت، وعلى الأخص الشعر البدوي الشفهي في برامج التلفاز الحكومي ومحطات الإذاعة. ولا تعد التغييرات المعمارية والتقنية تهديدا خطيرا للهوية الثقافية، حيث أن موقف التسامح ورحابة الصدر الشائعين لا يشملان التغيرات التي قد تمس جوانب كاللغة. ويبدو الأمر وكأن البيت الذي يجب أن يظل سليما ليس ذلك الذي يعيش فيه الناس، بل حيث يبثون وجهات نظرهم في الحياة. ومع ذلك فإن هذه المعارضة الشعبية لم تمنع الشعر في شبه الجزيرة العربية من تبني ضروب مختلفة من الأشكال الحديثة، أو من العثور على جمهور متقبل لذلك. وقد وصلت المعارضة التي واجهت الشعر الحر أو "شعر التفعيلة" في بداية الأمر إلى عداوة ليس لها مثيل في حالة القصيدة النثرية، ولكن هذا الأسلوب المثير للجدل بشدة قد نجح في تأمين موقع بارز في النتاج الشعري لعدة بلدان في المنطقة. والشيء المثير فعلا هو أن النجاح الذي وصلت إليه الحداثة لم ينجم عن تقدم غير مراقب، بل غالبا ما كان مصحوبا بموقف تعديلي. وقد وجد رموز هذه الحركة أنه من الضروري تعديل مواقفهم، بدلا من التنعم بنجاحاتهم، وذلك بتكييف التجديدات التي أدخلوها لتناسب الثقافة المحلية. وفي أكثر الأحيان لم يحدث هذا التكييف لأسباب عملية أو واقعية، بل بسبب الارتباط الأصيل بتلك الثقافة المحلية. وهذا الوضع المثير هو ما وجدته صالحاً للنقاش فيما سيتبع من الملاحظات التي لا بد وأن تكون تمهيدية مع الأخذ بالاعتبار عدم اعتياد غالب القراء غير العربيين على أدب المنطقة. "5" وغرضي هو رسم صورة للتوترات التي أنتجتها الحداثة في الشعر المعاصر في شبه الجزيرة العربية، صورة ممكن فهمها وإدراكها رغم شموليتها. ومع ذلك فقد أملى علي اختيار التعابير الساخرة والتناقضات المرتبطة بالحداثة كالمعتاد خياراته الخاصة وبلا ريب فإن الصورة الأخيرة هي انتقائية أكثر مما كنت أريد لها ومن نافلة القول ان الأمثلة المختارة لا تمثل أفضل الموجود، بل تشكل أمثلة لما أود مناقشته. وبالطبع تعد الحاجة للتجديد مع الاحتفاظ بهوية ثقافية مميزة معضلة عالمية. وفي الأجزاء الأخرى من العالم (غير الغربية) فإن هذه المعضلة تتفاقم على نحو متزايد وذلك في اتساق مع تسارع عملية العولمة التي تمارسها الأنظمة الغربية على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي وخلافه. وموضع الاهتمام في ما سيتلو من ملاحظات هو الشكل الخاص الذي اتخذته هذه المعضلة في أدب منطقة معينة وهي شبه الجزيرة العربية. وبعبارة أخرى، فإنني مهتم بالأسلوب المميز الذي حاول الشعراء العرب المعاصرون التغلب عن طريقه على مأزق تبني أشكال وتقنيات شعرية غربية مع الاحتفاظ بهوية بلدانهم بصورة ذات معنى على الصعيد الشخصي ومقبولة على الصعيد المحلي. والشعراء الذين أشير إليهم هم من الذين برزوا عموما في السبعينيات في القرن العشرين. أما من ينتمون إلى أجيال أقدم فلم يجابهوا أي مشاكل عند استمرارهم في استخدام الأنماط التقليدية للتحدث عن مواضيع كلاسيكية تماما أو مصبوغة بصبغة رومانسية الطابع. ويعد الشاعر اليمني عبد الله البردوني(1922-1999) حالة استثنائية بارزة بين أبناء هذا الجيل،حيث جاء بمزيج نادر من النمط الشعري التقليدي ومواضيع وبنى شفوية حديثة على نحو مذهل. ومع ذلك فلا توجد إشارة على أن البردوني قد عاش أزمة هوية تشابه تلك التي عانى منها الشباب من جيل الحداثة والتي تسببت في إنتاجهم أبرز أعمالهم. وهناك حالة مختلفة بعض الشيء، وهي حالة الشاعر والناقد اليمني البارز عبد العزيز المقالح الذي ينتمي إلى جيل انتقالي لا يزال يمارس تأثيره في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية. وقد حقق مقاما رفيعا باعتناقه للاتجاه الأدبي الحديث، في ميداني الشعر والنقد، في العالم العربي وفي اليمن على وجه التحديد. ومع ذلك فقد توقفت حداثته الشعرية على الشعر الحر، بعد أن كتب الشعر التقليدي على نمط "البيت" أو الشعر العمودي في بداياته. وبرغم ذلك فإن حداثته على المستوى النقدي والنظري تتضمن دفاعا عن شرعية قصيدة النثر باعتبارها جزءا من حرية الشاعر وحقه في التجريب. وفي مقالة نشرت في المجلد الأول في المجلة الدورية الأدبية اليمنية (أصوات) عام 1993، عرّف المقالح المرحلة الحالية للشعر العربي على أنها "مرحلة الشعر الأحدث، ذلك النوع من الكتابة الذي يحاول تجاوز الأشكال الشعرية، التقليدية والليبرالية،المستعملة والمتعارف عليها في اللغة العربية" (أصوات13). وفي نهاية المقال المشار إليه هنا يشير الكاتب إلى نفسه على أنه شخص "ما فتئ يكتب شعرا موزونا ولا يخلو في أحايين من قافية..." وهنا يمكن أن يمثل المقالح ردة فعل جيل كامل على دخول الحداثة للعربية. وهي استجابة تبين أن الشاعر منقسم بين ما يعتنقه فكريا ومستعد للدفاع عنه ولكنه لا يستطيع أن يتبناه تماما وما يستطيع أن يمارسه على أرض الواقع تبعا لتعليمه أو تدريبه وبناء على ذلك ذوقه ومهاراته الإبداعية. سيدافع المقالح عن الشعر الحر متقبلا الدراسة الشهيرة والرائدة لهذا النوع الأدبي للفرنسية سوزان بيرنارد"6" ولكنه لا يستطيع أو لن يستطيع أن يكتبها بنفسه. وقد اتخذ موقفا ملتبسا في بداية محاولاته الإبداعية بين الشكلين القصيدة التقليدية التي تقوم على البيت وقصيدة التفعيلة كما يبدو في بعض القصائد التي كتبها في بداية العشرينيات، على سبيل المثال "هوامش يمنية". ولكن في بعض الأعمال المتأخرة، كما في القصائد التي نشرها في عام 1989في مجلة مواقف التي تصدر من لندن والتي نجده فيها متبنيا لشكل التفعيلة. وفي كل هذه القصائد تقريبا، أي المتقدمة والأحدث، فإن نفس الدافع يحرك الشاعر اليمني وهو النضال اليمني للتغلب على المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه جهود البلاد للانضمام إلى العالم الحديث، سواء باستناده إلى الماضي الغني لليمن نفسه "الجزء من الجزيرة العربية الذي كان يعرف باليمن السعيد"، أو بتأمل التراث المميز الذي يشترك فيه كل العرب، ويشمل الأندلس مما يذكر الشاعر بواقع مأساوي أليم ليس في اليمن وحدها، والتي هي محور اهتمامه، بل في العالم العربي أجمع: طوفان يخرج من جسد الوطن الملتف بأعلام شتى: هذا علم يتوسطه سيف علم يتوسطه برميل علم يتوسطه قبر علم لا يتوسطه شيء (مواقف 129) ويستحضر هذا التعدد في الأعلام والشعارات بقوة التعدد المؤلم في الهويات، ومتاهة الهويات السياسية التي تبعث على الدوار، والتي لا تؤدي إلا إلى خذلان التوق العربي التاريخي للوحدة. وهي حالة تمزق وضعف حدثت في العصر الحديث كنتيجة لتاريخ استعماري غربي طويل، وقد كانت تجربة الحداثة مخيفة من هذا المنطلق. وفي قصيدة شاعر يمني أصغر عمرا هو عبد الودود سيف يلخص فيها الأسى الناتج عن ذلك بطريقة أكثر إيحاء، وان يكن من وجهة نظر أخرى حينما يخاطب القراء: اسألونا عن الشجن المتأله في عرش أشلائنا: هل سنبقيه في شفة الصمت حتى انهيار جدار الجليد - على الأرض - أم هل سنلقيه في برق أول مرثية قد تحط على سمعنا؟ (أصوات، 26) وهذه معضلة أمة فقدت ما يميزها من خصائص. أمة لا تشبه أحدا، لا تشبه شيئا، إننا ننتمي ربما للذي ليس يشبهنا ليس نشبه هذا... ولا ذا. (أصوات، 27). هذه الأسئلة حول الهوية ليست فلسفية تماما، فالهموم الثقافية والاجتماعية والسياسية الحالية تلح بقوة ولا تسمح بترف التأمل الفلسفي. ويعد الصمت أحد التوترات الملحة، "الصمت الذي ولد فينا صمتا\ سوف يشعل كل جبال الجليد..." (أصوات 25). قد تكون الإلماحات السياسية-الثقافية للصمت هنا شديدة الوضوح ولكنها لا تحول دون إلماح آخر وهو صعوبة كتابة الشعر في بيئة اجتماعية تضع للإبداع حدودا. ويعد سيف واحدا من الشعراء اليمنيين الذين قبلوا بمخاطرة التجريب حينما كتب شعر التفعيلة وقصيدة النثر في محيط تسود فيه الشفاهية والأشكال الشعرية المحافظة والمقاومة للتغيير. وقد واجه بسبب ذلك هجوما شديدا من أولئك الذين "يعدون الشاعر الحداثي مهرطقا (زنديقا) على صعيدي الدين واللغة" طبقا لما ذكره المقالح.(فاضل349). تنتشر الهجمات العنيفة على جهود الحداثة في شبه الجزيرة العربية. وتتفاوت الردود عليها، مع وجود قاسم مشترك بينها وهو تعريض الأشخاص للخطر فلا يمكن لأحد أن يتحمل النتائج وحده ، ببساطة، لأنها قد تكون خطيرة وتهدد الأشخاص أنفسهم وسبل عيشهم."7" ولكن الضغط السياسي لم يكن الدافع الوحيد وراء مثل هذا الوضع، لأن هناك الكثير من العوامل التي تشير إلى أن التراث الثقافي الذي يحمله كل شاعر كان قوة تكييف تدفع مشروع التحديث بالإضافة إلى الحاجة الواقعية والملحة للوصول إلى جمهور قراء الشعر. وهكذا فإن قضايا التشتت السياسي وتأثيرها على الهوية والتي رأيناها لدى الشاعرين اليمنيين توجد في كل مكان تقريبا في بلدان شبه الجزيرة العربية، غير أن الردود على تلك القضايا وطريقة عرضها ليست متشابهة أبدا. وفي المملكة العربية السعودية التي تغطي المساحة الأكبر من شبه الجزيرة العربية كانت التوترات المصاحبة للحركة الأكثر وضوحا إن لم تكن في الذروة على مدى الثلاثة عقود المنصرمة. وقد أخذت عملية التوحيد سياسيا وقتا طويلا، منذ عام 1902، وذلك نتيجة للاتساع والتنوع الجغرافي، مما سبب ردودا متنوعة للحداثة الثقافية بعموم. ولذلك فإن إقليم الحجاز الذي تقع فيه المدينة المقدسة مكة كان السباق في الاستجابة للتغيرات التي تحصل في مصر وبلدان عربية أخرى. وعلى سبيل المثال فإن حركات مثل الرومانسية لاقت صدى مبكرا في أعمال المفكرين الحجازيين قبل وقت طويل من أن تصبح المنطقة جزءا من الكيان السياسي الذي انضم إلى نجد (الإقليم الأوسط) والأجزاء الأخرى من شبه الجزيرة العربية التي تشكل في معظمها ما عرفه الإغريق والرومان باسم الصحراء العربية. وربما يفسر هذا ، حينما مست الحداثة الوحدة التقليدية للقصيدة "البيت" في السبعينيات،أن ردة الفعل العنيفة لم تأت من الحجاز أو من أي منطقة أخرى لهذا السبب بقدر ما أتت من نجد المنطقة الوسطى الشاسعة ومعقل المحافظة في الدولة. هذا علاوة على حقيقة أن شعراء ونقاد الحركة تحدروا من مناطق مختلفة من البلاد. ويعد علي الدميني أحد شعراء الحركة البارزين، ويتحدر من المنطقة الجنوبية الغربية، وهي منطقة مشابهة في طبيعتها الجغرافية لليمن. وانتقل الدميني في الستينيات إلى المنطقة الشرقية، حيث ينتج النفط، ليجد نفسه بعد ذلك مطاردا بعذابات وهموم لا تختلف كثيرا عن تلك التي تظهر في شعر اليمني عبد الودود سيف: سيدي سيدي المتخفي بذيل القميص هل ستخجل أنك أصغر من كل هذي الجراح أم ستضحك في السر حين يضمك صدقك بين الرطوبة في السقف والوحدة الأبدية في الليل بين دراهم من يملك الأرض أو يتسلى ببيعك صوت الريح حين يجهدك الناس أو يجهد الناس أمري أتلمس صدري أفتشه هل تبقى به نورس أخضر وبلاد صغيرة أترى حطت الطير فيه بكارتها بعد؟ أم ضرب البدو فيه الخيام؟ (رياح المواقف، 51) وخلف هذا التكتم والألم تكمن جرأة اختيار الشاعر بجلب التوتر إلى بيت الشعر. انه "متهم بالعصافير / واللغة النازفة" (رياح المواقف، 50). @ نشرت باللغة الإنجليزية في مجلة World Literature Today