كتب المؤرخ الأمريكي بول كيندي عبر موقع "تربيون ميديا سيرفيس" تحت عنوان "الغذاء مقابل النفط.. معادلة عالمية جديدة" يقول: "إنه نظراً لارتفاع أسعار النفط فإن الأمر المحتم هو أن الناس سيلجأون إلى مصادر الطاقة البديلة التي تعتبر أكثر جاذبية في الوقت الراهن، مثل الايثانول المستخرج من قصب السكر المزروع في البرازيل أو من الذرة المزروعة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلى هذا الأساس فإن المزيد من المساحات المخصصة في الغرب الأوسط الأمريكي ستتحول من إنتاج الحبوب إلى الطاقة البديلة مما يقلل من المخزون العالمي ويزيد من ارتفاع أسعاره". المعلومات المتوفرة اليوم تشير إلى انخفاض مخزونات العالم من القمح إلى أدنى مستوى له منذ 30عاماً، العوامل التي ساهمت في شح المخزون من السلع الغذائية الساسية تعود لعدة أسباب من بينه موجات الجفاف، وتراجع الدولار الأمريكي واستخدام الأراضي الزراعية في إنتاج الوقود الحيوي. ارتفعت أسعار الغذاء العالمية بنسبة 35% على مدار العام حتى يناير 2008م، في عام 2007م وحده ارتفعت أسعار منتجات الألبان بنحو 80% والحبوب بنسبة 42% ذلك وفقاً لمؤشر الغذاء العالمي الذي تصدره منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة. الأيكونوميست البريطانية وهي تقدم عنوانها المثير "زمن الطعام الرخيص قد انتهى" تشير إلى أن أسعار الطعام هذا العام أعلى منه في أي عام خلال 162عاماً ماضية. هل انتهى عصر الغذاء الرخيص؟ المؤشرات اليوم تذهب إلى إننا فعلاً على أبواب مرحلة تمثل فاصلاً بين عصرين.. عنوان الفصل الجديد أزمات قادمة لا تحمل سوى عنواناً واحداً: هاجس الأمن الغذائي. تقول جوزيت شيران المدير العام لمنظمة الغذاء العالمي التابعة للأمم المتحدة إن المنظمة قد تضطر إلى تقنين معونات الأغذية التي تقدمها لضحايا المجاعات حول العالم بسبب ارتفاع أسعار الغذاء التي ازدادت في العام 2007م بنسبة 40%. تواجه اليوم دول عربية كثيرة التي تعتمد على القمح كسلعة غذائية أساسية مشكلات ظهرت للسطح خلال الشهور الماضية، وكلها تشير إلى خطورة الاستهانة بالتحولات التي أصابت هذه السلعة الاستراتيجية، وأهمية الانصراف إلى وضع أجندة الأمن الغذائي كأولوية في سلم اهتمامات تلك الدول، إذا أرادت أن تحقق مستوى من الأمن الغذائي لا يدفعها إلى أزمات خطيرة كالتي بدأت مؤشراتها تظهر خلال الشهور القليلة الماضية والتي أصبح عنوانها الأثير: رغيف الخبز اليومي!. في الثمانينيات أعلنت المملكة أنها دولة مكتفية من القمح عبر برنامج الدعم التي طال هذا المحصول الاستراتيجي، إلا أن الثمن كان باهظ الكلفة، إنها المياه العميقة، والتي تمثل المخزون الاستراتيجي الذي استنزف خلال عقدين من الزمن بما يفوق القدرة على تعويض تلك المخزونات غير القابلة للتعويض. اليوم والمملكة تعلن انتهاء سياسة دعم زراعة القمح للحفاظ على المياه الجوفية العميقة تظهر أزمة القمح إلى الوجود. المسألة هنا مفاضلة بين قطرة الماء أو حبة القمح. الحفاظ على المياه أولوية، لكن أيضاً هل يمكن الاستمرار في دعم زراعة بعض المحاصيل والأعلاف التي تستهلك الكثير من المياه، وهل يمكن لهذا التوجه أن يخفف شبح القلق على المخزون الاستراتيجي من المياه الجوفية العميقة في بلد صحراوي يعاني الجفاف وندرة الأمطار. من المهم في مواجهة مسألة الأمن الغذائي النظر في عدة وسائل يجب أن تتوجه لها الأنظار، وعدم الاكتفاء بالبحث خلف الأسباب الظرفية التي خلفت هذه الظواهر - الأزمات، من المهم استعادة التفكير في مصادر تضمن التحكم بالوفاء بهذه السلعة الاستراتيجية وغيرها من السلع الأساسية، دون الارتهان لوجه السوق العالمي ومصادر الإنتاج العالمية الكبرى. للولايات المتحدةالأمريكية أن توجه بعض محاصيل القمح والذرة لإنتاج مادة الاثيانول كمصدر بديل للطاقة، ولا يمكن والحال كهذا أن تقف الدول العربية أمام شبح ازمات قد تدفع ثمنها من الاستقرار المعيشي لمواطنيها عبر البحث عن تنويع مصادر استيراد تلك السلع أو زيادة نسبة الدعم فقط. العالم العربي ليس كله صحراء قاحلة، وبلد مثل السودان - على سبيل المثال - لا يعاني أزمة مياه، ولا تنقصه الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، وحينها يكون توجيه جزء من الاستثمارات العربية نحو استزراع تلك المناطق والاستثمار فيها هو دعم بعيد المدى للأمن الغذائي. السودان يمكن أن يكون سلة الخبز العربي ويمكن أن يطعم كل الدول العربية لو أحسنت دول قادرة على الاستثمار هناك على بناء علاقات اقتصادية استراتيجية مع بلد عربي يعاني أزمات البحث عن مصادر التمويل، ويعاني ضغوطاً غربية متواصلة لاخضاعه عبر مسألة دارفور والتأثير علٍى قراره السيادي تحت شبح الخنق أو الحصار. لدينا اليوم عدة شركات زراعية - تكاد تكون ضعيفة الفاعلية في مواجهة مسألة الأمن الغذائي - ويمكن انشاء شركات أخرى جديدة لهذا الغرض، تتوجه بالدعم اللازم من الحكومة للاستثمار في استزراع أراضي السودان من أجل توفير المحاصيل الأساسية وغيرها من مكونات السلع الغذائية الأساسية، لتتحول تلك الأرض إلى سلة غذاء لا يمكن إلا أن يكون خيرها داعماً لاقتصاد دولة عربية مثل السودان، ومصدراً لأمن عذائي لدول الجوار العربية وخاصة لبلد مثل المملكة العربية السعودية، وهذا يمكن أن يقدم النموذج العربي الاقتصادي الذي يقاوم حالة التآكل في العمل العربي المشترك الذي ظل عنوانه السياسي مسيطراً على المشهد بينما لم تكن المسألة الاقتصادية ذات بعد يحمل أولوية العمل من أجلها، وهو كفيل بإغلاق الكثير من الثغرات من خلال دعم اقتصاد دولة عربية شقيقة وعبر اتفاقات ثنائية تجعل المحصول سلعة سعودية تزرع في أرض شقيقة، ولها أن تصبح سلة الغذاء التي لا يمكن أن تتعرض لقرارات تجعل منها مصدراً للقلق على رغيف الخبز لمواطن عربي بدأ يشعر بوطأة القلق على رغيفه اليومي. ويمكن تنويع تلك الاستثمارات في أكثر من بلد عربي أو إسلامي يتمتع بالميزة النسبية لاستزراع السلع الأساسية كالأرز أو القمح أو الذرة أو المكونات الداخلة في السلع الغذائية الأساسية لتحقيق عدة عناصر تدخل في سياسة الأمن الغذائي بالإضافة إلى ربط تلك الدول بمصالحها مع دول المنطقة الغنية بفوائض النفط. لا يمكن استعادة سياسات تعتمد الأمن العذائي عبر استزراع أرض صحراوية لا تملك مقومات الزراعة، ولم تكن يوماً بلداً زراعياً، ولا يمكن أن تكون النتيجة سوى التضحية بقطرة الماء العزيزة، ولا يمكن أن يكون الحل أمام مواجهات أزمات توفير سلع استراتيجية كالقمح والأعلاف عبر الاستيراد وحده الخاضع اليوم لما أسماه بول كنيدي "الغذاء مقابل النفط" لكن يمكن أيضاً العمل على تحويل فكرة الاستثمار الوطني في المجال الزراعي من أرض غير منتجة إلى أرض عربية منتجة عبر سياسات استثمارية واتفاقات ثنائية تجعل المال الذي يتحول إلى بلد عربي مثل السودان يحقق النماء لهذا البلد العربي الشقيق وفي ذات الوقت يوفر السلع التي ندفع اليوم ثمن ارتفاع أسعارها أو شحها قلقلاً على أمننا الغذائى. مثل هذه الاستراتيجية في الاستثمار يمكن أن تثمر عن الحديقة الخلفية لدول الجفاف التي تزخر بالمال ولكن تنقصها مقومات مثل الأرض الصالحة للزراعة والمياه الوفيرة المتجددة والأيدي العاملة.