في شهر كان مزحوماً بالفعاليات الثقافية، لدرجة التعارض أحياناً، جاء مهرجان المسرح السعودي الرابع، شمعةً متوهجةً بين كل هذه الفعاليات، ونحن بهذا نبارك لكل المسرحيين ولادة هذا المهرجان من جديد، الذي سيطل علينا في نسخته القادمة بعد سنتين من الآن. وحتى ذلك الوقت، سيظل المسرحيين يسترجعون ذكرياتهم الجميلة التي قضوها في أروقة المهرجان وهم "مسكونون بالأمل".. وقبل أن ننسى طعم الأيام الجميلة الماضية، نأتي بهذا التقرير البسيط لنستعرض فيه، برؤية بانورامية، كواليس المهرجان الذي عقد في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض من الفترة 2008/3/16إلى 2008/3/28.كانت البداية الحقيقية للمهرجان في المؤتمر الصحفي الذي عقد قبل انطلاق المهرجان بأسبوع واحد فقط، حيث لمس الصحفيون مدى حرص القائمين على المهرجان على إنجاحه، وقد تم الإعلان فيه عن البرنامج الرسمي الكامل للمهرجان، وأسماء الحضور، وإعلان قرار السماح للنساء بحضور المسرحيات، الذي كان مفاجئا للبعض، لكن المفاجئات لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في حفل الافتتاح، عندما تم الإعلان عن إطلاق جائزة مسرحية باسم "أحمد السباعي"، حيث شهد المسرح عندها تصفيقا حاداً بمجرد سماع الخبر. المفاجأة الثانية التي شهدها حفل الافتتاح جاءت في كلمة وزير الثقافة والإعلام الأستاذ إياد مدني التي وصفها البعض "بغير التقليدية" لأنه لم يعد لها أو يكتبها بل ارتجلها لتكون أكثر حميمية، وليعلن من خلالها عن التزام الوزارة بدعم المشهد المسرحي في المستقبل القريب. ثم بدأت فعاليات المهرجان، وانطلقت الندوات الفكرية شبه اليومية التي تقام في الساعة السادسة والنصف مساء، يليها مباشرة عرض مسرحي في الساعة الثامنة والنصف مساء مع جلسة نقدية للعرض المسرحي يسمح فيها للجميع بإبداء آرائهم في جو ثقافي صحي قلّ أن تعيش مثله مدينة الرياض. وشهدت الفترة الصباحية للمهرجان، الممتدة من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً ورشة عمل تطبيقية حول تقنيات التمثيل شارك بها العديد من الممثلين الذين استلموا شهادات مشاركه في الحفل الختامي، بإشراف مباشر من الدكتور مدحت الكاشف أستاذ التمثيل والإخراج بأكاديمية الفنون المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة. مهرجان حقيقي تنقسم المهرجانات إلى نوعين، مهرجانات "زائفة" تهتم بالبهرجة والنجوم والأضواء، ومهرجانات "حقيقية" تهتم بتأسيس ودعم المشهد الثقافي، البعض كان يظن أن مهرجان المسرح السعودي الرابع سيكون مهرجان زائفاً، إلا أنه كان مهرجاناً حقيقياً، استقطب مسرحيين حقيقيين لا نجوم زائفين. من ضمن أبرز الأسماء العربية الحاضرة في المهرجان: د. عبدالكريم برشيد من المغرب أحد أبرز المسرحيين العرب المعاصرين، عبداللطيف نسيب مدير المسرح الوطني في المغرب، محمد بن قطاف رئيس المسرح الوطني في الجزائر، وأخيرا رئيس لجنة التحكيم في المهرجان البرفيسور حسين المسلم العميد السابق للمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، هذه الأسماء الكبيرة، بالإضافة إلى مسرحيين بارزين مثل الأردني غنام غنام، والناقد الكويتي د.نادر القنة، والجزائري يوسف البحري كانوا أبرز نجوم المهرجان الذين أضافوا في مداخلاتهم النقدية بعد العروض الكثير والكثير إلى رصيد مسرحيينا المتواضع، ليكشفوا لنا مدى الشرخ المعرفي الكبير الذي نعاني منه بالتحديد في المجال الفني، فهؤلاء يمثلون مكسباً حقيقياً لأي مهرجان. وعلى العكس من المداخلات النقدية الثرية التي تأتي بعد كل عرض مسرحي، عانت الندوات الفكرية المسرحية من عمومية العناوين و"شطحات" بعض المشاركين عن المواضيع الأساسية، هذا في حالة إذا ما بدأت الندوة في الوقت المحدد لها، إلا أنها إجمالاً كانت رغبة صادقة من القائمين بتعريف الجمهور السعودي بآخر قضايا المسرح العربي المعاصر، كما أن بعض الندوات شهدت إقبالاً جماهيرياً كبيراً مثل ما حدث بالتحديد في ندوة الممثل الكويتي عبدالعزيز المسلم. جماهير غفيرة وتجاهل إعلامي شهدت أيام المهرجان حضورا جماهيرياً غفيراً من الجانب الرجالي، وحضوراً متواضعاً من الجانب النسائي، الذي فضح على حد قول البعض مدى زيف دعوات بعض الإعلاميات والمثقفات اللواتي طالبن من قبل بفتح المجال وعندما سمح لهن لم يأتين. بعيداً عن هذا، فقد كشفت العروض أيضاً عن مدى ضحالة ثقافة المشاهدة لدى المتلقي السعودي، حيث طوال أيام المهرجان لم يكن هناك عرض مسرحي "نضيف" خالٍ من سماع نغمات جوال الحضور المشتتة والمزعجة، ولم تفلح كل محاولات المنظمين اللحوحة بإقناع الجمهور لإقفال هواتفهم، إلا أنهم على الأقل نجحوا في كبح جماح فلاشات المصورين المزعجة التي كانت لازمة في العروض الأولى، وفشلوا في منع بعض النساء من جلب الأطفال الرضع. وفي مقابل هذا الإقبال الجماهيري الغفير كان هناك تجاهل غير مبرر من بعض وسائل الإعلام السعودية التي لم تعط المهرجان حقه من الرعاية الإعلامية، متناسين دورهم الهام في نهضة المشهد الثقافي في المملكة. خلف الكواليس @ اتسمت مداخلات الجانب النسائي في اللقاءات النقدية والندوات الفكرية بطابع خاص وعفوي يغلب عليه الاختصار الشديد، على العكس تماماً من مداخلات الرجال التي كانت تتجاوز المدة المخصصة للمداخلة. وكانت الدكتورة سلوى شاكر وشقيقتها الدكتورة أميرة شاكر وحليمة مظفر ورقية اليعقوب ومنسقة الجانب النسائي منيرة المشخص أبرز من يثري النقاشات النقدية بمداخلاتهن، يقابلهن في الجانب الرجالي غنام غنام ونادر القنة ويوسف البحري. في المقابل كان عبدالعزيز الحماد وعلي المدفع وعلي إبراهيم وعبدالرحمن الخطيب ومحمد المنصور ونايف خلف، أبرز "التلفزيونيين/ المسرحيين" الذين حضروا المهرجان، وزار خالد سامي وعبدالله المزيني وعبدالله السناني المهرجان في آخر الأيام. @ شهدت الأيام الثقافية اليمنية التي أقيمت بالتزامن مع مهرجان المسرح حضوراً جماهيرياً كبيراً لدرجة أنه خطف بعض من جمهور المسرح الذين آثروا الاستمتاع بالأنغام اليمنية على "أبو الفنون" كنوع من التغيير. @ امتعض الكثيرين من غرق المسرحيات المشاركة في الرمزية والغموض الشديد الذي حال دون فهم بعض المسرحيات لإيغالها في النخبوية، وكأن المسرحيين السعوديين بهذه اللغة يخاطبون أنفسهم فقط متجاهلين الجمهور، ولا يقتصر الأمر فقط على مستوى المعالجة، بل حتى على مستوى الموضوع، فأغلب المسرحيات المعروضة تتكلم عن قضايا إشكالية تخص النخب المثقفة. @ أحد أبرز نجوم المهرجان كانت "المهرجان"! وهي مجلة يومية معدة بشكل احترافي، تضم مقالات مسرحية للضيوف وقراءات نقدية لجميع العروض المسرحية، بالإضافة إلى مقابلات مع أهم الضيوف وآخر الأخبار، ترأس تحرير المجلة مدير اللجنة الإعلامية للمهرجان الأستاذ نايف البقمي، وبمشاركة من صحفيين متعاونين في الصحف السعودية. @ في الحفل الختامي وعندما اعتلى مدير عام المهرجان الأستاذ أحمد الهذيل المنبر ليلقي كلمته لم يستطع إخفاء مشاعره وأحاسيسه وأجهش بالبكاء المؤثر لأنه كان على وشك الإعلان عن نهاية المهرجان، لم تكن مشاعر "أبو إياد" تختلف كثيراً عن مشاعر بقية المسرحيين. @ ألقت لجنة تحكيم المهرجان بعضاً من التوصيات على وزارة الثقافة والإعلام، جاء في مقدمتها إنشاء معاهد للفنون وعرض المسرحيات المشاركة في بقية مدن المملكة، وجاء رد الدكتور السبيل بأنهم سيبحثون هذه التوصيات بجدية كبيرة. @ جاء حفل الختام كريماً للغاية وخرج الجمهور سعيداً، حيث تم توزيع شهادات تكريم على كل أعضاء اللجان ورؤسائهم بالإضافة إلى قنوات التلفزيون السعودي والمطبوعات السعودية، حتى وإن لم يتحرك بعضها على الإطلاق. بينما حصلت أربعة مسرحيات فقط من أصل عشرة على مجمل الجوائز، وكان الفائز الأكبر جمعية الثقافة والفنون فرع الأحساء بنصيب خمس جوائز عن مسرحية "موت المؤلف"، تليها جمعية الرياض بأربع جوائز عن مسرحية "الرقص مع الطيور"، ثم جائزتين لفرع نجران عن مسرحية "اللعب على خيوط الموت"، وجائزة يتيمة لفرع جدة عن مسرحية "ربما يأتي الربيع". ومن بين جميع الفائزين الرجال، هناك امرأة سعودية واحدة فقط فازت بجائزة أفضل ديكور عن مسرحية "الرقص مع الطيور" وهي الدكتورة سمية محمد. وفي نهاية الحفل تفاجأ الجمهور الرجالي بورود تنثر عليهم من الجانب النسائي في الأعلى بحركة تم التخطيط لها من قبل مشرفة اللجنة النسائية منيرة المشخص.