تُعدُّ رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، إيقونة السرد العربي الحديث، وما من رواية عربية نالت من الاستحسان، والجدل، والتحليل، ما نالته، فقد نزلت في المنطقة الملتبسة بين الثقافات المتنازعة في العالم الحديث، وقدمت تفسيراً مركباً للعنف المنبثق من التجربة الاستعمارية وتداعياتها. والحال فقد اقترحت تمثيلاً سردياً مرآوياً خصباً للعنف الذي يعوم عليه العالمان الشرقي والغربي. وقد لاحظ إدوراد سعيد أن "مصطفى سعيد" بطل الرواية، قام بدور معاكس لما قام به "كورتز" في رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، فكورتز رحل إلى "الأقاليم السوداء" فيما رحل مصطفى سعيد إلى "الأقاليم البيضاء". وليس هذا هو الفارق الوحيد بينهما، إنما الفارق المهم هو أن الأول شأنه شأن "كروزو" في رواية "ديفو" يرمز إلى الرجل الأبيض الذي يؤمن بنسق من القيم الفكرية والدينية والأخلاقية التي توظف لإنقاذ "الآخر" من خموله وتخلفه، وتحت الوهم الخادع بتغيير وضعية "الآخر" يتم تطبيق برنامج السيطرة الاستعمارية بوجوهه الثقافية السياسية والاقتصادية، أما الثاني فلا يسكنه هاجس التفوق، إنما هو يدفع بالعنف عنفاً كان اختزله إلى كائن سلبي، فرحل طالباً بالثأر في عقر دار الغازي الأصلي. كان مصطفى سعيد قد صمم أن يرد على أولئك الذين أرادوا مسخه حينما علّموه كيف يذعن لهم ليقول "نعم" بلغتهم.وجدير بالذكر أن أولى العبارات الإنجليزية التي لقنها "كروزو" الأبيض ل "فرايدي" الملون، هي "نعم سيدي". وهو الأمر نفسه الذي فعله المستعمرون في راوية الطيب صالح، تعليم السودانيين كيفية قول "نعم" بلغتهم. وبقتل جين مورس تخلص مصطفى سعيد من داء العنف، فقد أحس بأنه نجح في إعادة التوازن إلى نفسه، ولم يعد معنياً بالبحث عن نهاية محددة لحياته، ولا عن دلالة معينة لمصيره. فتابع محاكمته ببرود، وغادر بلاد الإنجليز، وهو خلو من المشاعر، والانفعالات التي كانت تعتمل في داخله من قبل. أفرغ عنفه، فاستراح وعاد بلا ضجيج، ولا أهداف، ولا إدعاءات، ليعيش متنكراً في قرية نائية وشبه ضائعة، لا يذكّره بماضيه شيء سوى مكتبته السرية في غرفته المغلقة التي لم يسمح لأحد بالاقتراب إليها حتى زوجته. أصبح الغرب بالنسبة لمصطفى سعيد تجربة ذهنية يستعيدها منفرداً لوحده في غرفة موصدة الأبواب، حينما يعود متعباً من مزرعته، فقد جعل ما تبقى من حياته مكرساً للهروب من "حالة" الغرب، والاتصال سراً بذكراه في غرفته الخاصة، وعلى نحو مماثل بالضبط لما كان يقوم به في غرفته "اللندنية" ولكن بمعاني مختلفة تماماً، وهنا يدخل المكان ليعمّق المنحى الرمزي للأحداث؛ فغرفته اللندنية فضاء شرقي في قلب الحاضرة الغربية، وغرفته السودانية فضاء غربي في عمق الشرق، والغرفتان وظفتا في النص لغايتين مختلفتين. يقول إن غرفته اللندنية هي "وكر الأكاذيب الفادحة" بيت شرقي استغل محتوياته النفيسة لإثارة الدهشة والفضول والإعجاب عند الغربيات لكي يحيلهن ضحايا مسحورات بالشرق وغرابته" غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، وسجاد سندسي دافئ، والسرير رحب، مخداته من ريش النعام، وأضواء كهربائية صغيرة، حمراء، وزرقاء، وبنفسجية موضوعة في زاويا معينة، وعلى الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة، بدا كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد، تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية، ودهون، ومساحيق، وحبوب، غرفة نومي كانت مثل غرفة العمليات في المستشفى، ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة، كنت أعرف كيف أحركها" في هذه الغرفة كان مصطفى سعيد يغوي نساءه، ويفاجئهن بعالمه الشرقي المثير، حيث "الصندل والند وريش النعام والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخيل على شطان النيل، وقوارب على صفحة الماء، أشرعتها كأجنحة الحمام، وشموس تغرب على جبال البحر الأحمر، وقوافل من الجمال تخب السير على كثبان الرمل على حدود اليمن، أشجار التبلدي في كردفان، وفتيات عاريات من قبائل الزاندي والنوير والشلك، حقول الموز والبن في خط الاستواء، والمعابد القديمة في منطقة النوبة، الكتب العربية المزخرفة بأغلفة مكتوبة بالخط الكوفي المنمق، السجاجيد العجمية والستائر الوردية، والمرايا الكبيرة على الجدران، والأضواء الملونة في الأركان". يتحول مصطفى سعيد في هذه الغرفة إلى أمير شرقي مخادع، يلبس العباءة والعقال، ويختال فخوراً بذكورته، ويحرص على أن ينتقم في فضاء شرقي سعى لإنشائه في قلب العالم الخاص بأعدائه، ويريد أن يجعل من التاريخ خلفية تضفي على عنفه معنى ثقافيا، يبدده مقابل شهواته، فالهدف خلخلة التماسك الداخلي للنساء اللواتي يصطحبهن إليه، إذ يقايض بالرموز الحضارية والثقافة لذة جسدية يعتقد أنه بها يثأر لنفسه. فما أن ينفرد بجين مورس في غرفته إلا وتحدث المواجهة الرمزية بين الجسد والمأثورات الثقافية "خلعت ثيابها ووقفت أمامي عارية، نيران الجحيم كلها تأججت في صدري، كان لا بد من إطفاء النار في جبل الثلج المعترض طريقي، تقدمت نحوها مرتعش الأوصال، فأشارت إلى زهرية ثمينة من الموجودة على الرف. قالت: تعطيني هذه، وتأخذني، لو طلبت مني حياتي في تلك اللحظة ثمناً لقايضتها إياها، أشرت برأسي موافقاً. أخذت الزهرية وهشمتها على الأرض، وأخذت تدوس الشظايا بقدميها حتى حولتها إلى فتات. أشارت إلى مخطوط عربي نادر على المنضدة. قالت تعطيني هذا أيضاً، حلقي جاف، وأنا ظمان يكاد يقتلني الظمأ، لا بد من جرعة ماء مثلجة، أشرت برأسي موافقاً. أخذت المخطوط القديم النادر ومزقته، وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها، كأنها مضغت كبدي، ولكنني لا أبالي، أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان.. أثمن شيء عندي وأعز هدية على قلبي. قالت: تعطيني هذه أيضاً ثم تأخذني. ترددت برهة لكنني نظرت إليها منتصبة متحفزة أمامي، عيناها تلمعان ببريق الخطر وشفتاها مثل فاكهة محرمة لا بد من أكلها. وهززت رأسي موافقاً، فأخذت المصلاة ورمتها في نار المدفأة، ووقفت تنظر متلذذة إلى النار تلتهمها، فانعكست ألسنة النار على وجهها. هذه المرأة هي التي طلبتني وسألاحقها حتى الجحيم. مشيت إليها ووضعت ذراعي حول خصرها وملت عليها لأقبلها. وفجأة أحسست بركلة بركبتها بين فخذي، ولما أفقت من غيبوتي وجدتها قد اختفت". أما غرفته في السودان فهي مكان لاستعادة الذكريات، فهي تحتوي عالم الغرب بكامل تمثيلاته "الحيطان الأربعة من الأرض حتى السقف. رفوف، رفوف، كتب، كتب، كتب" و"مدفأة إنجليزية بكامل هيئتها وعدتها، فوقها مظلة من النحاس، وأمامها مربع مبلّط بالرخام الأخضر، ورف المدفأة من رخام أزرق وعلى جانبي المدفأة كرسيان فكتوريان مكسوان بقماش من الحرير المشجّر بينهما منضدة مستديرة عليها كتب ودفاتر" ثم ك"تب الاقتصاد والتاريخ والأدب، وعلم الحيوان، جيولوجيا، رياضيات، فلك، دائرة المعارف البريطانية، غبون، ماكولي، طوينبي، أعمال برنارد شو كلها، كينز، توني، سميث، روبنسن. اقتصاد المنافسة غير الكاملة، هبس، الامبريالية.. إلخ" مئات الكتب ل: هاردي، ومان، ومورن، وولف، وكارلايل، زيفايغ، لاسكي، أفلاطون". وكما يقول الراوي "لا يوجد كتاب عربي واحد". ثم شمعدانات فضية، ولوحات زيتية وصور كثيرة، وصحف إنجليزية تعود إلى نهاية العشرينيات، ورسوم ومناظر وكراسة خُطّ في صفحتها الأولى "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء إما غربية أو شرقية". تحتوي الغرفة السودانية على التجربة الغربية لمصطفى سعيد بكامل أبعادها، وهي تتصل بعالم لم يعد يربطه به إلا الزمن الذي انقضى. غرفتا مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" عالمان متناقضان في معناهما؛ الأولى تتصل بحياته الشرقية، والثانية تذكّره بتجربته الغربية، وبينهما سهم انطلق من الشرق إلى الغرب، ليعود متنكراً لا يحمل سوى شذرات من الذكريات التي لا يريد لأحد معرفتها. www.abdullah-ibrahem.com