يبدو أننا نشهد اليوم بدايات حقيقة لانحسار عصر الدولار، المتاجر في نيويورك أصبحت تفضل اليورو، والمخاوف الحقيقية تتراكم من تهاوي الدولار وتضرر اقتصاديات الدول المرتبطة بهذه العملة العالمية. الذهب يحلق، واليورو يخلف الدولار بعيداً، والدكتور آلان جرينسبان الرئيس السابق للاحتياطيات الفيدرالية الأمريكية يدعو دول الخليج في منتدى جدة الاقتصادي إلى فك ارتباط عملتها المحلية بالدولار لمقاومة التضخم. يذكرنا جرينسبان في منتدى جدة الاقتصادي باقتصادنا الذي ما زال ريعياً، وإلى أهمية تحويل الثروات الطبيعية (النفط) إلى مقدرات اقتصادية مستديمة، وهي معادلة تمثل تحدياً كبيراً لدول النفط، حيث لا يمكن لاقتصاد ريعي مواجهة أعباء المستقبل وتقلب أسعار النفط فضلاً عن حتمية نضوبه، حتى لو بعد عقود بعيدة. دعوة جرينسبان التي كانت مفاجأة المنتدى ما زالت لم تأخذ المدى المناسب لقراءتها. هذه الدعوة لم تكن من فهم اقتصادي عابر أو سياسي كاره للسياسة الأمريكية، إنها من فم المؤتمن السابق على الاقتصاد الأمريكي، والأمين السابق على مستقبل الدولار الذي يبدو أنه يعلن انحسار عصره اليوم. في المنتدى نفسه يبرئ الدكتور محمد الجاسر نائب محافظ مؤسسة النقد السعودي الربط بين الريال والدولار من كارثة التضخم، التي أكلت المدخرات، وعززت حضور الغلاء، وأفرزت شبح القلق حتى من حدود الكفاية. بل إنه حتى لا يقول بإمكانية مراجعة السياسة النقدية أو حتى تعديل سعر الصرف لمواجهة بعض آثار لهذا التضخم الذي أصبح العنوان اليومي لكل من يطاله شبح الغلاء وتآكل قيمة الريال مع تهاوي الدولار. وعلى أن اقتصاديين كثيرين في الداخل كتبوا ونشروا منذ شهور إلى أن القادم في مسلسل الانهيار سيكون موجعاً طالما لم تتخذ المزيد من الإجراءات بما فيها مراجعة السياسات النقدية وإعادة تقويمها في ضوء هذا التحول. إلا أن شهادة اليوم على المزيد من تهاوي الدولار جعلت المسألة في غاية الحرج، كل ما في الأمر أن السيد جرينسبان لم تجعله أمريكيته وعلاقته بالسياسة الاقتصادية للولايات المتحدةالأمريكية تغطي على رؤيته الاقتصادية، وأمانة التقويم لعملات دول الخليج النفطية عندما دعا إلى فك الارتباط لا تغيير سعر الصرف وحده. يقول الدكتور محمد الجاسر نائب محافظ مؤسسة النقد في ورقته في منتدى جدة الاقتصادي: "إن الطفرة لا يمكن أن تحقق الوفرة، إذا لم يكن في إطار السياسات الكلية محاطة بالشفافية". وحول ارتباط الريال بالدولار يقول: "إن الافتراضات يجب أن تستند على الظروف الحقيقية والواقع العلمي لاقتصاديات كل دولة، وأن تغيير سعر الصرف يمكن أن يؤثر في الأسعار الاستهلاكية، وأن تغيير سعر الصرف لن يعطي نتائج إيجابية إنما سيدفع نحو التضخم". السؤال البسيط كيف يمكن أن يكون سعر الصرف مؤثراً في زيادة الأسعار الاستهلاكية؟ هل رفع قيمة الريال لا فك الارتباط مؤثر إيجابي أو سلبي في أسعار السلع الاستهلاكية المقومة بالدولار والمستوردة في ذاتها أو خاماتها أو خدماتها أو العمالة التي تعمل في مشروعاتها. ليست المسألة معقدة إلى هذه الدرجة لنكتشف أن مثل هذا الكلام لا يمكن تسويقه بسهولة على من يملك معلومات ولو قليلة عن ماهية التضخم وكيفية احتساب سعر الصرف، وعلاقته بتقويم سعر السلعة المستوردة غالباً. فإذا ارتفعت قيمة الريال مقابل الدولار هل يمكن شراء السلعة بسعر أقل باعتبار أنها مقومة أصلاً بالدولار من المورد أو ما يعادله من العملات الأخرى، أم المسألة هي العكس؟!! أما الدفاع عن قدرة الصادرات الخليجية على منافسة السلع الأمريكية في الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول المرتبطة بالدولار في حال تغيير سعر الصرف كما يذهب بعضهم، فهذه تحتاج إلى قراءة راصدة لنوعية هذه السلع وحجمها والآثار المترتبة على ارتفاع كلفتها، والمقارنة بين الكلفتين، كلفة الضرر من ضعف تلك الصادرات نتيجة تعديل سعر الصرف الذي يفيد القطاع الخاص بالدرجة الأولى، أو حجم الضرر الكبير الذي أصاب المستهلك محلياً من جراء ثبات سعر الصرف. يقول وزير المالية والتجارة السابق سليمان السليم في مقالة قيمة عن مكافحة التضخم، نشرت في صحيفة الاقتصادية قبل عدة أيام: (أما فيما يتعلق بالسياسة النقدية فواضح أننا أسلمنا قيادنا إلى اقتصاد متجه جنوباً بينما اقتصادنا يتجه نحو الشمال، وإذا كان ربط ريالنا بالدولار الأمريكي قد خدمنا في السنين الماضية، فإننا اليوم نجد صعوبة في اللهاث وراء إجراءات البنك المركزي الأمريكي ومحاولة إدخال البغل في الإبريق). ولا أعتقد أن وزير المالية والتجارة السابق عندما يدعو إلى رفع تدريجي لأسعار صرف العملات الخليجية تجاه الدولار الأمريكي، وهو من أكثر المسؤولين السابقين تحفظاً وأكثرهم تحوطاً، سوى قارئ في مشكلة تضخم بالغة الكلفة، وتجربة السبعينيات التي عاشها الوزير السابق تركت أثراً في تقويم واقع يعاد إنتاجه اليوم. وعلى كثرة الدعوات المحلية من قبل اقتصاديين وخبراء في الاقتصاد تدعو إلى مراجعة السياسة النقدية للمملكة وخصوصاً فيما يتعلق بسعر الصرف، أو فك الارتباط تدريجياً، إلا أن تصريحات بعض المسؤولين تصر على إبقاء الوضع على ما هو عليه، من دون أن تقدم لهؤلاء وللناس المكتوين بجنون الغلاء وارتفاع الأسعار وشح بعض السلع وارتفاع الإيجارات وارتفاع أجور العمالة إجابة كافية وواضحة وشافية وشفافة تدحض هذه الرؤى التي ترى أن مواجهة التضخم تبدأ من مراجعة السياسة النقدية وعلى رأسها مراجعة مسألة ربط الريال بالدولار أو تعديل سعر الصرف. نواجه اليوم تضخماً تتحرك عجلته بلا توقف، وآثاره المقبلة مؤذية ومخيفة وربما دفع أضعاف الثمن لمعالجتها. في أبجديات الاقتصاد يأتي رفع سعر الفائدة ليعالج - إضافة إلى حزمة أخرى من الإجراءات - مسألة تدفق النقد والسيولة في أوصال الاقتصاد؛ لمواجهة أعباء التضخم، إلا أن سعر الفائدة على الريال السعودي (الودائع) بدأت تصل إلى حافة 2% وربما مع إعلان رئيس مجلس الاحتياطي الأمريكي الحالي عن النية لخفض آخر في الشهر المقبل في سعر الفائدة على الدولار الأمريكي، سنجد السياسة النقدية الحالية ستدفع لمزيد من ضخ السيولة وزيادة النقد ومراكمة التضخم. بدأت الأيام الماضية مضاربات محمومة على أسعار العملات الخليجية ترقباً لتغيير سعر الصرف، فالتقويم اليوم لأسعار عملات دول الخليج مقابل الدولار أقل من قيمتها الشرائية بما يفوق 30%. هل يمكن لهذه التصريحات التي توالت خلال شهور وبإصرار على إبقاء الوضع على ما هو عليه أن تؤكد قدرتها على الصمود أمام شبح التضخم الذي أصبح حقيقة، بل وها هو ذا يعلن ألا نهاية ولا توقف لموجة تراجع قيمة الريال الشرائية طالما ظل الإصرار على أن تغير سعر الصرف لن يقوى على مواجهة التضخم. الحديث عن سياسات كلية محاطة بالشفافية يستحق أن يكون عنوان أي عمل يقدم نتائجه للمواطن بعد معاناة وطول صبر، انما القلق من استخدام مثل تلك العبارات الباهظة الكلفة، لكنها سهلة التداول في منتدى اقتصادي. هي سهلة التداول؛ لأنه لا خلاف حولها، لكنها باهظة الكلفة إذا كانت تعبر عن رؤية غير قادرة سوى على إنتاج مزيد من التضخم ومزيد من العجز عن مواجهة آثاره التي بدأنا نراها وسنرى المزيد منها مستقبلاً.