والآن، ما الذي يُمكن عمله لتفعيل قوتنا الناعمة؟ كما سلف، فإن لدى المملكة مخزوناً هائلاً من القوّة الناعمة التي لم تُستثمر بعد، وتنتظر من صانع القرار السعودي إقرار إستراتيجيّة شاملة لهذا الغرض، تُرسم على أعلى المستويات السياسّية والاقتصاديّة والإعلاميّة والثقافيّة والدينيّة في بلادنا، لتُشكّل في مجموعها منظومة سياسات وأهداف ووسائل لتفعيل هذه القوّة، وتعظيم هذا المخزون الكامن، ليعكس القوّة الحقيقيّة للمملكة، في عين الشارع العربي وبين مختلف شرائح الرأي العام في العالم الإسلامي والغربي، خدمة للمصالح الحيويّة الإستراتيجيّة السعوديّة، على المدى المتوسط والبعيد. ففي الفضاء الإسلامي، الذي لا يمكن أن ينافس المملكة أحد عليه، ويُعدّ - في نظر الجميع من مُحبّ وعدو - أقوى أداة ناعمة في يد المملكة، كونها حاضنة لقبلة المسلمين، التي يتجه إليها - يوميّاً - أكثر من مليار ونصف مسلم في صلواتهم خمس مرات، وفيها الحرمان الشريفان، اللذان تنطلق منهما - أسبوعياً - رسالة مرئية - صوتية، يدوى صداها أرجاء العالم، ببثّ مباشر من مكة والمدينة وهي (خطبتا الجمعة)، ويحج إليها ويعتمر ملايين المسلمين سنويّاً، ومنها - أيضاً - انطلق الوحي، وفيها نشأت العاصمة الأولى للدولة الإسلامية، وهي مركز قوة الأغلبيّة السُنيّة في العالم الإسلامي.. ومع كل هذه المقوّمات والمزايا، إلا أن المملكة لم تستثمر هذه القوّة بما يتناسب مع هذه المزايا.. فالحج والعمرة ما زالا هاجساً أمنيّاً، وعبئاً إنفاقيّاً، ومشكلة (لوجستيّة)، أكثر من كونهما فرصة سياسية، وميزة اقتصاديّة، وقيمة ثقافيّة مُضافة، وبعداً أيدلوجّياً عميقاً للقوة السعوديّة الناعمة، لا يمكن أن ينافسها عليها أحد من العالمين - سواء حاضراً أم مستقبلاً. وهنا، ينبغي التركيز، في الاستهداف السياسي الناعم، على النخب السياسّية والدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة لمختلف القيادات في العالم الإسلامي، أو بين أوساط الأقليّات المسلمة وقياداتها في الدول غير المسلمة، من حيث الترحيب والاستضافة، والتمكين من الحج والاعتمار، والزيارة المتكرّرة على مدار العام، وكذلك الاهتمام بقيادات مؤسسات المجتمع المدني في تلك الدول، بما في ذلك العناصر الشبابيّة فيها، ودعوتهم للحج والعمرة بشكل متكرّر.. بحيث تتحول مناسبات الحج والعمرة والزيارة - وخصوصاً بعد فتح العمرة على مدار العام - إلى تظاهرة ثقافيّة وإعلاميّة ووشائجيّة مع دول ومجتمعات العالم الإسلامي، وإلى موسم عالمي لتبادل المنافع التي تخدم مصلحة البلاد، وبالتالي الاستفادة من هذه القوّة الناعمة عند الضرورة. صحيح، أن هناك جهوداً لا تُنكر مثل الاستقبال الرسمي لكبار الضيوف، وندوة الحج الكبرى، ولكنها ما زالت محدودة المدّة والمدى والعدد والانتشار ونوعيّة الفعاليّات.. والمأمول أن يكون الحج والعمرة والزيارة مناسبات تستثمر الدولة فيها هذه القوّة بأبعادها الدينيّة والاستثماريّة والثقافيّة والاقتصاد المعرفي، لخدمة أهداف ومصالح المملكة العليا مع الدول الإسلامية على المدى البعيد. لقد ظهر مصطلح (الاقتصاد المعرفي) - مؤخراً - كأحد الأبعاد للقوة الناعمة للدول، والمملكة لديها فرصة ذهبيّة لاستثمار هذا البعد، من خلال توفير بُنية تحتيّة معرفيّة تستقطب من خلالها العلماء المبرزين في العالم الإسلامي، من أطباء ومهندسين ومخترعين وطلاب نجباء.. ولعل (جامعة الملك عبدالله للعلوم) إحدى هذه المنافذ التي يتوق كل عالم أو مُبدع إسلامي أن يكون في بيئة إسلاميّة، ويكون - في نفس الوقت - على صلة مباشرة بأدوات العلم الحديث من جامعات ومكتبات ومختبرات.. ولن يجد العالم المسلم في غير المملكة حضناً روحانياً وبيئةً جاذبة في نفس الوقت إلا في هذه الجامعة.. وكذا الأمر ينسحب على الطلاب الموهوبين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، الذين سوف يلتحقون في هذه الجامعة الحضارية الوليدة، والتي سوف تكون أفضل (رمز) للقوّة السعوديّة الناعمة عبر اقتصاد المعرفة.. جذباً وتأثيراً. وفي مجال العمل الإسلامي الخارجي، فإنه ينبغي توظيفه كإحدى الركائز الأساسيّة في السياسة الخارجيّة للمملكة، ولا ينبغي النظر إلى العمل الإسلامي الخارجي من زاوية محدّدة، وأفق ضيّق كالعمل الدعوي، على أهميته.. فالعمل الإسلامي الخارجي شيء أعظم وأشمل بكثير من مجرّد العمل الدعوي.. إنه أفق واسع يشمل الكثير من المناشط والفعاليّات والمشاركات، سواء داخل المملكة أو خارجها، ويتطلّب نظرة متجدّدة لتحديث آفاقه وأطره، وتطوير آلياّت عمله، والفئات المُستهدفة منه، وفقاً للظروف المتغيّرة والمستجدّات في العالم الإسلامي، وقضاياه ومشاكله واحتياجاته، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأقليّات المسلمة في الدول غير المسلمة، التي أصبحت قوى مؤثّرة في بلدانها ومجتمعاتها، ففي فرنسا وحدها يعيش (5) ملايين مسلم، وقريبا من هذا الرقم في بريطانيا، والمملكة هي أكثر الدول الإسلامية مرشحّة لقيادة هذا الدور الريادي الناعم دون منازع، إذا أخذت زمام المبادرة. وفي المجال الثقافي والإعلامّي، فإنهما معين لا ينضب إذا أُحسن التخطيط لهما، وتمت إدارتهما بطرق غير تقليديّة، وأُنفق عليهما بسخاء، يمكّنهما من إحداث التأثير المطلوب منهما على شعوب الدول المُستهدفة، وعلى المدى المتوسط والبعيد.. ومن الوسائل المحققّة لهذا الهدف إطلاق قنوات فضائيّة موجّهة للعالم، يكون منطلقها البرامجي (السعوديّة في عيون الآخرين) وليس في عيوننا في الداخل، وبإعلام مهنيّ واحترافي هدفه مخاطبة الآخرين، وليس أنفسنا.. وكذلك إنشاء (مراكز ثقافية) دائمة، مُلحقة بالسفارات السعوديّة في الخارج، لتكون حلقة وصل وحوار دائم بين حضارات وثقافات وشعوب دول العالم مع المملكة، خاصة في الدول التي يهّم المملكة أن يكون لها حضور دائم ومؤثّر في سياستها وتوجهّات شعوبها، وكذا توسيع وظيفة إذاعة (القرآن الكريم)، لتكون محطّة إسلاميّة ذات برامج دينيّة ودعويّة متنوّعة، ويشارك في دوراتها البرامجية أفضل الدعاة والفقهاء وأهل الفتيا التقاة والمعتدلين، من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتعمل على نشر ثقافة إسلاميّة (عالميّة) التوجّه، تعتمد على مبدأ القسط والوسطيّة والاعتدال والتسامح والحوار مع الآخر، الذي يعكس الجوهر الحقيقي للإسلام.. ونحن أولى بهذا الجهد من دول أخرى، فالمغرب على سبيل المثال، أطلق قناة تلفزيونية باسم (الوسطيّة)، وعُمان تُصدر مجلة دورّية باسم (التسامح)، والكويت أنشأت مركزاً عالميّاً باسم (المركز العالمي للوسطيّة). ويندرج تحت هذه المنظومة، التي تحتاج إلى مزيد من التوسّع والدعم والإنفاق، الجوائز النوعية التي تقدّم للمبرزين من أنحاء العالم الإسلامي، والفعاليّات الخارجيّة مثل: معارض الكتب، والأسبوعيات الثقافيّة، وبرامج تبادل الزيارات على مستوى الوفود الشبابيّة والطلابيّة من مختلف أنحاء العالم، وعلى مستوى المثقفيّن والأدباء والنخب السياسّية، حتى وإن كانوا لا يشاطروننا جميع توجّهاتنا السياسّية والثقافيّة.. ويرتبط بهذا البعد، أهمية الاهتمام بنشر اللغة العربية وتدريسها، من خلال المنح المجانية سواء داخل المملكة، أو عبر المراكز الثقافيّة في الخارج.. وكذا الأمر بالنسبة للمجال السياحي، الذي بدأت بُنيته التحتيّة تتشكّل مؤخراً، عبر الهيئة العليا للسياحة، التي لابد أن تأخذ بالاعتبار تصميم برامج سياحّية ذات طابع إسلامي، تكون موجّهة لفئات معينة من رعايا العالم الإسلامي، وبرامج أخرى موجّهة للعالم الغربي. وفي المجال الدبلوماسي، فإن نوعية السفراء وحسن اختيارهم، من أهمّ العوامل التي تحققّ للمملكة أهدافها الإستراتيجيّة عبر قوّتها الناعمة.. لقد تغيرّ التعريف التقليدي للسفير، وتغيّر معه الدور المناط بالسفارة، وعلينا أن نتغيّر طبقاً لذلك.. لقد أُعيد تعريف وظيفة السفارة، كما تغيرّ دور السفير من كونه يمثّل رئيس الدولة في الشؤون السياسّية الثنائيّة المباشرة، عندما كانت وسائل الاتصال محدودة بين رؤساء الدول إلاّ عبر السفير، إلى سفير يمثّل الدولة كجسم بمختلف مصالحها الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسّية، بحيث تتحولّ السفارة إلى (جسرٍ) مؤثر لعبور هذه المصالح المتنوعّة.. ومن هنا، تأتي أهمية الانعتاق من الإسار التقليدي في نشاط السفارات، وفي اختيار السفراء، وضرورة العمل على (انتقائهم) من الأجيال الشابّة والمتعلّمة والمؤهلّة، التي تُتقن لغات الدول المُستهدفة ولغة العصر، وقادرة على (تسويق) القوّة الناعمة السعودية، وفقاً لطبيعة البلد المستهدف.. وكذا الأمر بالنسبة لمباني السفارات نفسها، لتكون قلاعاً تعكس مكانة المملكة، ومنصات تعبّر عن دورها الحيّوي في العالم، وتخدم مصالحها الإستراتيجيّة، في عالم العولمة والانفتاح والانفجار المعلوماتي. وفي المجال السياسّي، فإن التوجهات السياسية للقيادة السعوديّة، القائمة على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وتبني سياسة الاعتدال، والوقوف على مسافة واحدة من فرقاء النزاعات الإقليمية والدوليّة، كل هذا يشكّل في مجموعه رصيداً سياسيّاً ثميناً، يمكن للمملكة استثماره لدعم قوّتها الناعمة عربيّاً وإسلاميّاً ودوليّاً، وهذا ما نلمس شواهد منه عند ظهور بعض الأزمات.. كما تكتسب (الزيارات الملكيّة) أهمية خاصة في مدّ الذراع الناعم السعودي، خاصة مع الدول التي ترتبط معها المملكة بمصالح وعلاقات إستراتيجيّة، أو تلك الدول المرشّحة لهذا الدور مستقبلاً، سواء لأسباب سياسّية أو اقتصادية أو دينيّة، مثل الصين والهند وروسيا واليابان، ودول آسيا الوسطى، وأفريقيا.. ولعلنا نتذّكر كم كان لزيارات الملك فيصل لدول أفريقيا من تأثير واسع في خدمة مصالح المملكة في ذلك الوقت. وفي دهاليز المنظمّات الدوليّة، فالمملكة بما لها من مكانة اقتصاديّة مرموقة، فهي عضو مؤثّر في جميع المنظمات الدوليّة الكبيرة، ومع ذلك فإننا من أقّل الدول استفادة منها، بالرغم من أن المملكة من أكثر الدول مساهمة ماديّة فيها، بل ومن أسرعها سداداً لحصصها، ومع كل هذا لا تُبذل جهودا كبيرة في الضغط عليها لتعيين موظفّين سعودييّن فيها، يُمكنهم - مع مرور الوقت - تسنّم مناصب قياديّة فيها، وبالتالي، التأثير المباشر وغير المباشر على سياستها، وبما يخدم مصالح المملكة، ويعزّز قوّتها الناعمة على المدى البعيد.. كما أننا - على استحياء - في استثمار القوّة الناعمة السعوديّة، عندما تكون مقاّر تلك المنظمّات الإقليميّة أو الإسلامية لدينا، مثل: رابطة العالم الإسلامي، ومنظمّة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية.. في حين أن الولاياتالمتحدة لا تجد غضاضة في ذلك، وترتفع عقيرتها عند إحساسها بأي توجّه تتبنّاه المنظمات الدوليّة لسياسات تُخالف توجهاتها أو مصالحها، بل وتهدّد بالانسحاب منها، أو إيقاف مشاركاتها وحصصها في ميزانياتها.. كما يحصل - دائماً - في تعاملها المتكرّر مع منظمات اليونسكو، والأمم المتحدة، والطاقة الدوليّة. وفي المجال الاقتصادي والمساعدات، فإن المملكة قد أنعم عليها المولى بقدرات ماليّة تمكّنها من نشر نفوذها الناعم في العالم، باعتبار أن الاقتصاد السعودي يُمثّل إحدى الرافعات الكبرى للاقتصاد العالمي، ممّا يتطلّب خططاً لدعم القوّة السعوديّة الناعمة حول العالم عبر هذا المجال، وذلك بأساليب أكثر ذكاءً، تعمل من خلالها على ربط مصالح الدول المُستهدفة بمصالح المملكة بشكل دائم، من خلال برامج إنمائيّة وإغاثيّة واقتصاديّة واستثماريّة، يحسّ بها مواطنو تلك الدول، ويشعرون بأثرها المباشر في حياتهم اليوميّة باستمرار، ومن ذلك - على سبيل المثال - توجيه الاستثمارات والمشاريع الاقتصاديّة الحيويّة إلى الدول الناشئة، التي ترى الدولة فيها هدفاً استراتيجياً يخدم مصالحها على المدى البعيد، بهدف تشبيك المصالح الاقتصاديّة البينيّة، التي لا تنفصم عراها عند أقلّ (هزّة) دبلوماسيّة أو سياسية تمرّ بين البلدين. وفي مجال العمالة الوافدة، فإنها - أيضاً - ذراع ينبغي ألاّ يُستهان بقدرته على بسط القوّة الناعمة السعوديّة، وخصوصاً بين الفئات المتعلّمة والماهرة من هذه العمالة، فالمعلوم أن (7) ملايين وافد يعيشون بين ظهرانينا، وهناك شريحة مُعتبرة من هؤلاء تشمل فئات الأطباء والمهندسين والمعلوماتيّين والمحامين وأساتذة الجامعات والمدرسين والإعلاميّين والمثقفيّن، وهؤلاء يمكن أن يكونوا أدوات ناعمة داعمة للقوة السعوديّة حول العالم، إذا أمكن احتواؤهم ضمن برامج ومناشط موجّهة لهم، ولأفراد أسرهم المقيمين معهم في المملكة. وفي المجال التعليمي، فإن البعثات للخارج سواء من طلابنا عبر الملحقيّات التعليميّة الذين أصبحوا - الآن - بالآلاف، أو ممّن يمكن أن تُقدّم لهم منح تعليمية وتدريبيّة لشباب وقيادات العالم الإسلامي، في المؤسسّات التعليميّة والدينيّة والتدريبيّة السعوديّة، تمثّل قناة فعالة لنشر القوّة الناعمة للمملكة حول العالم، وبالتالي نفوذها.. وعليه، ينبغي أن نتوسّع في برامج المنح لأبناء العالم الإسلامي والأقليّات المسلمة، فهؤلاء سوف يكونون سفراء لنا في بلادهم، فالبعثات التعليميّة والمنح الدراسيّة والتدريبيّة أدوات طالما استخدمتها الدول المتقدمة لبسط نفوذها الناعم في العالم من خلال طلاب المنح والبعثات، فهؤلاء هم قيادات المستقبل في بلدانهم. وفي مجال العمل الخيري والإغاثي والإنساني والتطوعي، فإن هذه - أيضاً - أذرعة تستخدمها جميع الدول لمدّ نفوذها الناعم عبر القارات، وهناك أعمال تطوعية مؤسسيّة ناجحة ومؤثّرة اضطلع بها المجتمع المدني بدعم مباشر من حكوماتهم مثل: (أطباء بلا حدود)، و(محامون بلا حدود)، ومنظمة (Oxfam)، وقبل عدة عقود (مارس - 1961م) أطلق الرئيس الأمريكي - جون كندي - مبادرة (مجموعة السلام - Peace Corps)، التي انخرط فيها معظم الشباب الأمريكي، لتقديم خدمات اجتماعيّة وإنسانيّة وطبيّة في أنحاء العالم.. ومنذ ذلك التاريخ انخرط في هذه المنظمة التطوعية العالمية (190.000) متطوع، ذهبوا إلى (139) دولة للمشاركة في قضايا إنسانيّة وصحيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وإغاثيّة، تشمل التوعية بمرض (الإيدز)، وتقنية المعلومات، والمحافظة على البيئة، والمساعدة على بناء حاضنات الأعمال الصغيرة وغيرها كثير.. وخلف كل هذه المناشط هدف (وحيد) مُعلن وهو: المساعدة على أن تطل الشعوب الأخرى على أمريكا، وأسلوب الحياة الأمريكيّة، ونشر القيم الأمريكيّة، وفهم أمريكا، ولا يخفى على لبيب الهدف النهائي لكل هذه الجهود! وهو نشر القوّة الناعمة لأمريكا حول العالم بوسائل ناعمة ومغرية ومحببّة للشعوب. ولا ينبغي علينا في المملكة، وكنتيجة لرّد فعل أحداث سبتمبر، أن (ننكفىء) على أنفسنا في الداخل بحجة إيثار السلامة ودفع الحرج، بل على العكس من ذلك، فالأمر - الآن - أصبح أكثر إلحاحاً من ذي قبل للانطلاق والتوسع في المجالات الخيريّة والإنسانيّة والتطوعيّة والإغاثيّة حول العالم، ولكن عبر عمل مؤسسّي منظّم ومُراقب ومُحكم وموثوق بمن يقوم على شأنه، وليس نشاطاً فرديّاً كثير الأخطاء والزلاّت والإحراج السياسي، كما كان في السابق، عندما تُرك الحبل على القارب.. إن قدَر المملكة أن تلعب هذه الأدوار الناعمة، بحكم مكانتها وموقعها الخاص في قلب العالم الإسلامي وقلوب المسلمين.. وبدونها سوف يملأ - حتماً - هذا الفراغ غيرها من قوى إقليميّة أو دوليّة قد لا تكون مُحبّة للمملكة أو مخالفة لتوجّهاتها، وسوف تفقد المملكة - إذا تخلّت عن هذه الأدوار الحيويّة - ميزة إستراتيجيّة سوف تحّد - قطعاً - من نفوذها الناعم في العالم بشكل كبير. إن ما تقدّم الإشارة إليه ما هو إلاّ خطوط عريضة، وليست خطّة تفصيلية لكيفيّة تفعيل القوّة الناعمة السعوديّة، فهذا مشروع جبّار وطموح.. إنها مجرّد إشارات عابرة، من أجل لفت النظر إلى أهمّية أن تستفيد المملكة أكثر من قوّتها الناعمة التي تتوفّر عليها، وضرورة أن تستثمرها بشكل مؤثّر وفاعل، وبأسلوب واعٍ ومخطّط مدروس، وضمن إستراتيجيّة شاملة، موجّهة لمحيطها الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي الواسع. ولتحقيق هذه الطموحات الإستراتيجيّة الناعمة، فإن هذا يتطلّب تشكيل (فريق عمل) متخصّص، من مختلف الجهات المعنية لدراسة هذه الأفكار وغيرها دراسة معمقة وجادّة وهادئة، بهدف بلورة إستراتيجيّة شاملة ومتماسكة لتفعيل عناصر القوّة الناعمة السعوديّة.. ومن ثم إسنادُها لجهة إداريّة واحدة تُعنى بمتابعة أمر بسط القوّة الناعمة السعوديّة في أصقاع المعمورة بشكل دائم.. وليس هناك أفضل من هذه الفرصة التاريخية، التي تعيشها بلادنا في الوقت الحاضر، من الشروع في هذا المشروع الطموح.