يخطىء من يظن أن الفلسفة لا تعيش بين البشر "هنا". فهي حاضرة في مفردات اللغة العامة ولكل منها نصيب ولابد. وهي فاعلة في علاقات الحياة اليومية فكرة وقيمة وقانونا ولا محيد لأحد عنها. ولا يكاد يمر أسبوع إلا وأسمع أو أشاهد مادة إعلامية ثقافية غنية بالأفكار والأطروحات والرؤى، لأن من يشارك فيها لا يقدم منطق الحيلة على منطق الحجة لحرصه على مصداقيته أو لخوفه من سلطة المتلقي، وأعني ملايين المشاهدين أو المستمعين الذين لا تخدعهم بلاغة الثرثرة - إفتح فمك يرزك الله - ولا يعدون الصمت حكمة أبدا !. كأنني أقول أن من لا يتنبه لمدى حضور الخطاب الفلسفي في المجتمعات الغربية لن يفهم الكثيرعن ثقافاتها السائدة، العادية والعالية. فالنظريات الفكرية الكبرى ليست موجودة في الكتب والمجلات وأروقة المعاهد والجامعات فحسب، بل إن جزءا أساسيا منها متنزل في شكل سلوكيات تتجسد وتتشخص في مختلف أشكال التواصل بين الذات وذاتها، بين هذه الذات وآخريها، بينها وبين المؤسسات الخاصة والعامة، بدءا بالعائلة والمدرسة وانتهاء بالمدينة والدولة. وبصيغة مجردة أقول أن منتوجات الخطاب الفلسفي تحضر في الوعي والمخيال الجماعي العام لتحدد رؤية الإنسان للمكان والزمن والشيء الكائن في العالم من حوله. نعم لا شك أن الحماقات والجهالات والضلالات المعرفية موجودة في كل ثقافة، لكنها ليست هي الحاكمة بأمرها هنا كما في بعض المجتمعات التي يبدو إنسانها تائها عاجزا عن تفسيرهبوب الرياح وسقوط المطر وعلل النفس والجسم بشكل صحيح. الديانة المسيحية والتراث العبراني لعبا أدوارا قوية في تشكيل الوعي والمخيال الجماعي الغربي منذ أن تبنت روما هذا الموروث المشرقي عقيدة رسمية للدولة في القرن الثالث الميلادي. لكن الأثر الحاسم من قبل ومن بعد ظل من نصيب الفلسفة، وإن حضرت في أثيناوروما الأمس بشكل مختلف عن حضورها في باريس أو لندن اليوم. وتزداد هذه الحقيقة التاريخية وضوحا ورسوخا حين نذكر بأن دينامية التحولات الكبرى في الغرب مدينة للثورات الفكرية المتلاحقة منذ عصر النهضة إلى اليوم، ، وعلى الأخص منذ القرن الثامن عشر حيث كان عصر التنوير فلسفيا بامتياز. فهذه ثورات فكرية ومعرفية وعلمية وجمالية لم تكن لتتحقق وتترجم في شكل اختراعات تقنية دون تلك الفلسفة التي كانت الأم الشرعية لكل العلوم حقيقة ومجازا، ولا تزال تشكل مرجعية ضرورية للعلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية كلها في هذا السياق الحضاري. لن أستعيد أطروحات من ذهب إلى أن لهذا التراث العظيم جذورا مشرقية، كي لا يتشعب الموضوع ويشتت القراءة. فالشيء المؤكد أن عمارة الفلسفة التي نعرفها اليوم شيدت في إطار زمني - مكاني محدد، وهذا ما يعول عليه. وحتى في هذا السياق قد يكون للفلسفة آباء كثر، في أثينا، وخارجها ربما، لكن إفلاطون وأرسطو هما اللذان أسسا الخطاب ودشنا التقاليد، ورسما مسار فنون الجدل حول قضاياه الكبرى ( ولكل طريقته كما سنرى ). لهذا السبب كانا في طليعة المشروع الذي بدأته صحيفة لوموند منذ أسبوعين، ويهدف إلى إعادة نشر وتوزيع الأعمال الفلسفية الكبرى لأهم المفكرين الغربيين، وعلى مدى عام كامل. فهذه الجريدة اليومية الوسطية الرصينة قررت أن تحتفل كل أسبوع، وبالتعاون مع دار نشر "فلاماريون الشهيرة"، بعلم من أعلام الفلسفة وذلك بإصدار أهم كتبه أو أهم كتاباته لتصل مع ملحقها الثقافي، وبقيمة رمزية، إلى الجمهور العريض من القراء. جاء الكتاب الأول عن إفلاطون، وقد ضم ثلاثة نصوص حوارية هي "الوليمة" و"فيدر" و"مرافعة سقراط"، وتتمثل أهميتها في جانبين رئيسين. الأول منهما يتصل بشكل الخطاب حيث أنها تتخذ من المتخيل الأدبي ذريعة لطرح قضايا الفكر للتأمل والجدل. والوجه الثاني يتمثل في محتوى هذا الشكل ذاته، حيث سمح الحوار بين مجموعة من الشخوص أو الأصوات لهذا المفكر الرائد بطرح قضايا الحقيقة والفضيلة والعدالة والحب.. من زوايا متنوعة توسع مجال التفكر وتحد من سطوة منطق الحسم الذي هو آفة كل فكر وكل علم ولو أنكر الجاهلون. ولو استعملت مصطلحات أثيرة لدي لقلت أن أهمية هذه الكتابة الفلسفية تكمن وتتجلى في هذه "الحوارية" التي هي سمة للخطاب لغة ودلالة، وهي غاية من غاياته. وهنا مفارقة طرفة تستحق تحديدا وتعليقا. فهذا المفكر لم يعرف بفلسفة تخصه، وكل ما يقال عن "الأفلاطونية" -وربما الأفلاطونيات ! - هو من قبيل التأويلات اللاحقة لنصوص كان يطيب لكاتبها أو "مؤلفها" أن يتخفى وراء أقنعة كثيرة كي لا يصرح برأيه الشخصي المباشر إلا في النادر من الأعمال. وسيرته قد تلقي الضوء على الأمر ولو من وجوه. لقد جاء "أرسطوكليس"، اسمه الحقيقي، من عائلة أرستقراطية، وكان قوي البنية ماهرا في المصارعة، ولذا لقب "أفلاطون"، ولولا محبته لأستاذه سقراط وفجيعته بموته المأساوي لما صار مؤسس الفلسفة والمدشن لخطابها ربما !. فالأستاذ صاحب طريقة فلسفية تخصه، وكان ينشرها عبر تعليمه الناس مهارات الجدل العقلاني المنطقي في الأماكن العامة. من هنا أتهم بإفساد عقول الشباب، وثارعليه كثيرون من أهل أثينا، وبتحريض ماكر من رجال السلطة طبعا. وحين تمت محاكمته رسميا وطلب منه التراجع عن آرائه وممارساته فضل تجرع السم ليموت دفاعا عن تلك "الحكمة" التي تعلم الإنسان إدراك الحقائق والفضائل، وتغريه بالتمسك بها والدفاع عنها ضد خطاب الجهل الذي عادة ما يسود بين عامة الناس العام. هذه الحادثة الشهيرة أثرت في تلميذه الشاب أبلغ الأثر فقرر أن يواصل الطريق ويتحمل المهمة، وإن بأسلوب آخر. لم يكن هناك فضاء محدد للتعلم فافتتح أكاديمية لا يلتحق بها غير من يحب الفلسفة ويحرص على تعلمها. ولم يكن هناك متون منجزة تعزز عملية التعلم وتنظمها فبدأ يؤلف تلك النصوص التي تجمع بين التخييل الأدبي والتنظير الفكري كما قلنا من قبل. ولا ندري.. فربما كان إفلاطون قد لجأ إلى كل هذه المبادرات كي لا يعاني قمعا أصاب غيره. الشيء المؤكد أنه نجح في الانتصار لأستاذه، وللفلسفة، وتتمثل ذروة النجاح في تشكيله لوعي أبرز تلاميذه، ونعني أرسطو الذي لقبه حكماؤنا ب"المعلم الأول" وكم هو مستحق لهذا اللقب الدال على أهميته، وعلى وعي متقدم لحكمائنا دونما شك. ليس من المبالغة أن يقول مقدم الكتاب أن العالم اليوم هو أرسطي بمعنى ما. فهذا المفكر خاض في قضايا المنطق، والفن، والتربية، والسياسة، والميتافيزيقيا.. لكنه لم يبحث في أي من هذه المجالات إلا مسلحا بخطاب محكم، دقيق، واضح، أي أنه كان، بخلاف أستاذه، صاحب منظومة نظرية ومنهاجية محددة تشتغل في كل مجال بصيغة خاصة. سنعود إليه لاحقا لنفصل القول بعض التفصيل. نعم لقد قررنا أن نصاحب المشروع محبة في الحكمة، وثقة في القاريء الذي يحبها مثلنا.. وربما أكثر منا.