لا أحد على وجه البسيطة يستطيع أن يعلن بملء فيه أن ثمة قوة مطلقة، أو ثمة قوة خارقة بين القوى والقدرات البشرية، لأنها كلها طاقات محدودة مهما بلغت صيغ أدوارها وتأثيراتها ومن يبحر في كتاب الله الكريم يجد إشارات إلى ذلك حسبي أن أذكر منها شيئاً يسيراً يشير إليها: @ (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت..) الآية. @ (وفوق كل ذي علم عليم) @ (هو الذي سخر لكم ما في الأرض جميعاً) @ (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها..). @ (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء..) @ (ومنهم من يرد إلى أرذل العمر..) @ (.. لا تنفذون إلا بسلطان..) @ ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه..) @ (وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام..) وغيرها كثير.. ولربما كانت الآية الأخيرة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن السياق على أن الذي يعي ويتبصر في الآية ودلالتها يجد أن المقصود من قوله (وله) الملكية المتصرفة فكل أمر للإنسان معلق بمشيئة الله وما السفن التي تسير وتجري بكم في البحر وأنتم في موج كالجبال إلا مسخرات بأمره ولم يكن الفعل ذاك من قوة البشر وما كان دليل تميز بين مخلوق ومخلوق. لقد عبّرت (اللام) هنا عن الملكية المطلقة التي تعني التصرف الكامل للخالق في حق مخلوقاته وهم تحت هذا التقدير سواء لكنهم في تدبيره متفاوتون. نعود إلى مفهوم المثل الذي جاء عنواناً لهذه الزاوية، ورب سائل يقول كيف يتصل معنى الريح والإعصار بالإشارات القرآنية وعليه، نشير إلى ما لا يخفى على معتبر متدبر من أن المرء لا يقدر أن يكون شيئاً مطلقاً في ذاته، ولا يمكن أن يختار صفته إلا باعتباره المقيد وطاقته المحدودة، فالذي يظن نفسه ريحاً عاتية تفجؤه صورة الآخر التي تأتي على هيئة إعصار ثم ذلك الإعصار نفسه لا يملك أن يكون إعصاراً كاملاً وإذا ما التف عليه إعصار كامل لم يقدر على الشيء كما يريده، وإن تحقق له شيء مما أراد لم يدم له ذلك لما يريد وعليه فإن القوة لله جميعاً، وعلى المرء أن ينتقص من أمره حين يتذكر أن قوته مقيدة.. وان أقوى القوى بين الأمم لا يمكن أن تكون مهيمنة بالصورة التي تريدها تماماً ولا دواماً، فأين تذهبون؟ ما عمر المرء قلبه بقوة أعظم من حبه لله وتسليمه له في كل أموره وتوكله عليه لمعرفته بأنه لا عاصم من أمره إلا بما شاء، ولا متمم لغرض له في دنياه دون إرادته.. ولو أن أحدنا أراد أن يتخذ لنفسه نفقاً في الأرض أو سبباً إلى السماء وسبيلاً في مجاهل الجبال أو دياجير البحار ما وسعه إلا أن يستغيث في أيسر الأحوال بمن بيده مقاليد القوى، فكيف ينأى بجانبه عنه في أعسر المواقف، ولعمري ما التحف امرؤ في غدوه ورواحه وذهابه وأوبته، وليله ونهاره بغدرة أوهن من قدرة يظنها له الوجاء والكفاء، وما التجأ إلى ركن أشد من ركن مولاه، ولا حصن أمنع من حصنه وبناه، لولا أن من بين ظهرانينا من أدركته الغفلة عن أن حجم القوى لا تحيط به العقول والافهام ولا تنوءُ به القلوب والأجسام، ولو أنه آنس من جذوة الشر ناراً لأدرك أن قلبه معلق بمشيئة الله، فإذا ما تناسى أحدنا ذكر ربه: والله يعلم أني لست أذكره إذ كيف أذكره إذ لستُ أنساهُ كان عليه أن يتذكر قدرته في أسرار خلقه وإعجاز تكوينه، وليس للمرء أن يتحين فيها فرصة التعرف والاكتشاف والترصد لتستبين له حقيقة عز الله وجبروته، وإنما أن يؤمن به في كل شيء أمامه ويصدق به في كل شيء خلقه، جاء الشيطان إلى رجل عابد وهو على شاهق من الأرض يتأمل ما لم يخلقه باطلاً، فقال له ان كنت مؤمناً بقضاء الله وقدره وأنه هو الذي يحيي ويميت، فألق بنفسك من هذا الجبل، فأجابه العابد: يا لعين لله أن يمتحن عباده، وليس للعبد أن يمتحن ربه!! فما رأيت أجل حكمة من قوي علّق أمره بأمر الله وقدرته بقدرته، إن تغشته النوائب أوكل أمره إلى الله.. ولو قدر عليه أحد تيقن أنه لم يكن أقوى من الله، وأن قدر هو على شيء تذكر أن الله فوقه فلم يبطش ولم يجهل ولم تقض بغير الحق يداه..