تناقلت وسائل الإعلام المقروءة في الأسبوع الماضي خبر الحكم الصادر من المحكمة العامة بجدة بالقتل تعزيراً على أحد المفحطين، والذي تسبب في وفاة ثلاثة شباب معه في عمر الزهور، بعد أن اعترضت محكمة التمييز على الحكم مرتين، وأصر قضاة المحكمة العامة بمحافظة جدة - وفقهم الله - على قتل ذلك المفحط تعزيراً، وتباينت آراء الناس في مجالسهم الخاصة والعامة حول هذا الحكم، ومدى منطقيته وموافقته للشرع والعقل والمنطق، وأصبح الجميع قاضياً ومحامياً بل ومفتياً ..!! وهذه عادة الناس في مثل هذه الظروف، فالكل يتكلم من غير إدراك لخلفيات القضية وحيثياتها، ومن دون وعي للأسباب التي بنى عليها القضاة حكمهم هذا، واطلاعهم على ظروف الحادثة وملابساتها، وما طالب به المدعي العام، وما قدمه من أدلة وبيّنات، والتي قد تخفى على الإعلاميين وعامة أفراد المجتمع. فاعتراض محكمة التمييز على ذلك الحكم الصادر بالقتل وإصرار قضاة المحكمة العامة بجدة على حكمهم أمرٌ طبيعي في نظام الإجراءات الجزائية، لا كما يتكلم به الكتّاب والقراء من أن الحكم خطأ أو مجانبٌ للصواب، فلقد نصت المادة الثالثة بعد المائتين من نظام الإجراءات الجزائية على أنه (إذا قبلت محكمة التمييز اعتراض المحكوم عليه شكلاً وموضوعاً فعليها أن تحيل الحكم إلى المحكمة التي أصدرته مشفوعاً برأيها لإعادة النظر على أساس الملحوظات التي استندت إليها محكمة التمييز في قرارها، فإذا اقتنعت المحكمة بهذه الملحوظات فعليها تعديل الحكم على أساسها، فإن لم تقتنع وبقيت على حكمها السابق فعليها إجابة محكمة التمييز على تلك الملحوظات كما نصت المادة الرابعة بعد المائتين على أن (على محكمة التمييز إبداء أي ملحوظة تراها على الأحكام المرفوعة إليها، سواء أكانت باعتراض، أم بدون اعتراض، وذلك وفقاً لما ورد في المادة الثالثة بعد المائتين كما نصت المادة الخامسة بعد المائتين على أنه (إذا اقتنعت محكمة التمييز بإجابة المحكمة على ملحوظاتها فعليها أن تصدق على الحكم فإذا لم تقتنع فعليها أن تنقض الحكم المعترض عليه كله، أو بعضه - بحسب الأحوال - مع ذكر المستند، ثم تحيل الدعوى إلى غير من نظرها للحكم فيها وفقاً للوجه الشرعي ويجوز لمحكمة التمييز إذا كان موضوع الحكم المعترض عليه بحالته صالحاً للحكم واستدعت ظروف الدعوى سرعة الإجراء - أن تحكم في الموضوع وفي جميع الأحوال التي تحكم فيها محكمة التمييز يجب أن تُصدر حكمها بحضور الخصوم، ويكون حكمها نهائياً، ما لم يكن الحكم بالقتل أو الرجم أو القطع أو القصاص فيما دون النفس فيلزم رفعه إلى مجلس القضاء الأعلى). ولن أتكلم في مقالي هذا عن تقييم ذلك الحكم ؛ إذ لم اطلع على تلك القضية وتفاصيلها إلا من خلال مطالعتي للصحف المحلية، والتي كانت تتابع جلسات تلك المحاكمة أولاً بأول، وهذا ميزةٌ أتاحها نظام الإجراءات الجزائية للإعلاميين، حيث نص النظام في المادة الخامسة والخمسين بعد المائة على أن تكون: "جلسات المحاكم علنية..". كما نص النظام في المادة الثانية والثمانين بعد المائة على أن: "يُتلى الحكم في جلسة علنية ولو كانت الدعوى نظرت في جلسات سرية..". وإنما سيكون حديثي اليوم عن جريمة التفحيط، تلك الجريمة التي تشكل بعبعاً مخيفاً وظاهرة مأساوية في عالم الإنسانية، تلك الجريمة التي تفتك بالبشر أشد من فتك الحروب الطاحنة بهم، وتسببت في غياب البسمة عن وجوه الكثير من إخواننا وأخواتنا مدى حياتهم، فجعلت حياتهم بعد فراق أحبتهم حياة لا طعم لها ولا رائحة، حتى أصبحوا يتمنون أن لو لحقوا بهم ولو في ظلمة القبور. إن جريمة التفحيط لا خلاف في تحريمها شرعاً وعقلاً ؛ فهي إلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة، وتعريضٌ لمرتكبها بالموت المحقق له ولمرافقيه وغيرهم من عابري الطريق، وإيذاءٌ لعباد الله المؤمنين، وإزعاجٌ لهم، وإهدار للأموال المحترمة وإتلافٌ لها، بالإضافة إلى أنها جريمة يُعاقب عليها النظام. ولسنا هنا في طور سرد الأدلة على تحريم تلك الجريمة شرعاً، وتجريمها نظاماً ؛ إذ إن المسألة محسومة للجميع، لكن هل الحكم بقتل مرتكبها جائز شرعاً ونظاماً ؟؟.. فلقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحدود في باب العقوبات، وهي مقننة بجرائم معينة، ووفق ضوابط محددة، فالاجتهاد فيها قليل، كما أن إثباتها فيه نوعٌ من الاحتياط ؛ إذ تدرأ بالشبهات، ويُتحرى فيها قدر الإمكان جانب المدعى عليه. وجاءت الشريعة أيضاً بالتعازير التي تتماشى مع تغيرات الظروف وأحوال الناس، ومع اختلاف الزمان والمكان، ومجالها أوسع وأرحب، وتخضع لاجتهاد ولي الأمر فيما يحقق المصالح ويدفع المفاسد ؛ فله تحديد بعض الأمور وجعلها ممنوعة ومعاقباً عليها بعقوبات تعزيرية وفقاً لضوابط معينة، كما له تحديد وتقنين العقوبات لجرائم لم يُحدد لها عقاباً شرعياً، كجرائم المخدرات مثلاً. واختلف علماء المسلمين في مشروعية التعزير بالقتل، وعامة فقهاء المذاهب الأربعة (الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة) على جواز ذلك ؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسءعَوءنَ فِي الأَرءضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواء أَوء يُصَلَّبُواء أَوء تُقَطَّعَ أَيءدِيهِمء وَأَرءجُلُهُم مِّنء خِلافٍ أَوء يُنفَوءاء مِنَ الأَرءضِ ذَلِكَ لَهُمء خِزءيٌ فِي الدُّنءيَا وَلَهُمء فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم). ففي هذه الآية جعل الله تعالى القتل عقوبة لمجرد السعي في الأرض بالفساد، سواء باشر الساعي قتلاً أم لا، فولي الأمر مخيّرٌ فيما ورد من أنواع الجزاء المنصوص في الآية، وله أن يقتل من المفسدين من لم يقتل أو يأخذ المال، تحريّاً للمصلحة العامة ودفعاً للفساد. فالتعزير مداره على جلب المصلحة العامة والخاصة، ويُرجع في تقدير ذلك كمّاً وكيفاً إلى اجتهاد القضاة الذين نظروا القضية بما تقتضيه المناطات الشرعية. نسأل الله عز وجل أن يحفظ لبلادنا أمنها واستقرارها، وأن يوفق قضاتنا لتطبيق شرع الله تعالى في المفسدين في الأرض، المحاربين لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الساعين في الأرض فساداً. @ باحث قانوني [email protected]