استناداً إلى عدة تقارير، سوف يناقش الاجتماع الوزاري المقبل لمنتدى الدول المصدرة للغاز فكرة إنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز على غرار منظمة "أوبك". وهذه فكرة مغرية لكنها سجالية بامتياز. لا ريب أن هناك حاجة ماسة للتنسيق بين كافة المهتمين بصناعة الغاز، وذلك بهدف تطوير الموارد المتوفرة وضمان الشروط العادلة التي تكفل مصالح الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.إن البلدان المصدرة للغاز أخذت تدرك ضرورة الإجراءات المنسقة.وبدأت الأولويات السياسية تتراجع أمام الحسابات الاقتصادية. ومن هنا أخذت تتوثق الاتصالات بين الدول المعنية. ويعتبر "منتدى الدول المصدرة للغاز"، الذي تأسس في العام 2001هيكلاً غير رسمي يجمع عدداً من الدول المنتجة، إلا أن اجتماعاته غير منتظمة. وعلى صعيد إقليمي، بدأت روسيا العمل على تجميع منتجي الغاز، والدول التي تمثل طرق عبور له، في الساحة السوفيتية السابقة، في منظمة جديدة من نوعها. وسوف تقدم موسكو مشروعاً بهذا الخصوص إلى الاجتماع الوزاري للمجموعة الاقتصادية الأوراسية (روسيا وبيلوروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأوزبكستان) الذي سيعقد في مدينة بطرسبورغ في مطلع نسيان أبريل القادم.وسوف يطلق على المنظمة الجديدة اسم "الرابطة الدولية لمنظمات الغاز الوطنية غير الحكومية للبلدان المنتجة والناقلة للغاز الطبيعي" على المنظمة الجديدة. عقبات قانونية وإجرائية وبوجه عام، يمثل ضخ الغاز الطبيعي إلى المستهلكين عبر خطوط الأنابيب عقبة رئيسية على طريق التنسيق بين منتجي الغاز بخصوص الأسعار على صعيد دولي، ذلك أن المنتج لا يستطيع تسويق إنتاجه بعيداً عن مسار خط الأنابيب الذي يربطه بمستهلك محدد. وفي حال تحويل الغاز الطبيعي إلى سوائل فإن بإمكان المنتج نقل إنتاجه عن طريق البحر إلى أية جهة يختارها. وبالتالي فإن نمو سوق الغاز المسال قد يجعل الاتفاق المسبق بين منتج الغاز والمستهلك منتفياً، فيما يمكن للمنتجين أن يتفقوا على أسعار بيع الغاز إلى المستهلكين. ولا توجد حتى اليوم سوق عالمية موحدة للغاز، وهناك أسواق إقليمية متفرقة، كما تباع هذه المادة بموجب العقود الطويلة الأجل، ولهذا لا يمكن التنسيق بين المنتجين فيما يخص تحديد الأسعار إلا في حالة الغاز المسال.وتشكل حصة الغاز الطبيعي المسال حالياً بين 25و 27في المائة من السوق العالمية للغاز. وسوف ترتفع صادرات الغاز المسال نحو 38% بحلول العام 2020.ومن المتوقع أن يتضاعف حجم هذا السوق بحلول العام 2010- 2011مقارنة بحجمه في 2004.وقد أنتجت هذه السوق في الفترة من 1999وحتى 2001نحو سبعة ملايين طن سنويا، وبحلول العام 2010من المتوقع أن ينتج خمسة وخمسين مليون طن من الغاز المسال.كذلك، يرجح أن يتضاعف أسطول السفن العالمي الذي ينقل هذا الغاز بما يقارب الثلاث مرات بحلول العام 2009.مرتفعا من 135ناقلة عاملة بنهاية 2002.وفي تطور كهذا، قد يكون الحديث عن "أوبك للغاز" أكثر يسراً. وعلى الرغم من ذلك، هناك بين مصدري الغاز من يعتقد أن التشجيع على مثل هذه الفكرة قد يكون بمثابة مكيدة روسية للحد من هامش المناورة أمام منافسي موسكو المحتملين في السوق الأوروبية. خاصة وأن الجميع يدرك أن كميات كبيرة من الغاز الإيراني (يصل الاحتياطي المؤكد إلى 9ر 26تريليون متر مكعب) ستتحول عاجلا أم آجلا إلى هذه السوق. والغريب هنا أن فكرة " أوبك للغاز"، هي في الأصل إيرانية سارع الروس لتبنيها والترويج لها. عقبات جيوسياسية ولا ريب أن الغرب يدرك العواقب الجيوسياسية بعيدة المدى لتشكيل منظمة دولية للغاز تهيمن عليها روسيا ومن بعدها إيران، لذا كان بديهياً أن تسارع الدول الغربية للتصدي لها، وإن كان ذلك يتم تحت عناوين تجارية أو اقتصادية. ولا يخفي الغرب على وجه الخصوص رغبته في تقليل الاعتماد على روسيا كمصدر للطاقة ( سيما الغاز منها )، وطريق لإمداداتها، ولهذا شجع على بناء خط باكو - جيهان لنقل نفط آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر تركيا، ويشجع اليوم على مشروع لتصدير الغاز من المنطقة ذاتها بعيداً عن الأراضي الروسية، وذلك عبر ما يعرف بخط "نابكو". وبالنسبة لإيران، هناك قانون أميركي يحظر الاستثمار في قطاع الطاقة فيها، وهناك تحفظ أوروبي، فضلاً عن مفاعيل عقوبات مجلس الأمن الدولي. وقد رأت نائبة رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس النواب في الكونغرس الأميركي ايليانا روس ليتينين أن إنشاء منظمة للغاز على غرار "أوبك" يشكل تهديداً طويل المدى لإمدادات الطاقة في العالم.واقترحت رسالة ليتينين التي وجهتها إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ونشرت في واشنطن في الرابع من نيسان ابريل الماضي، أن تعلن إدارة بوش للحكومة الروسية بشكل واضح أن تشكيل مثل هذه المنظمة يعتبر خطوة غير ودية تنعكس سلبا على التعاون بين البلدين في المجالات الأخرى. وفي وقت لاحق، تبنى مجلس النواب الأميركي مشروع قانون خاصا بالتصدي لمحاولات تشكيل "أوبك للغاز". ومن جهتها،اعتبرت وكالة الطاقة الدولية أن إنشاء "أوبك للغاز" سيكون غير مجد للدول المنتجة. وأن قيام مثل هذه المنظمة سيترجم إلى انخفاض في الاستهلاك، والتعويض عن الغاز بطاقات أخرى. وذهبت الوكالة إلى حد القول ان " المنظمات تحرف السلوك دون أن تعزز امن الإمدادات وأن السوق أكثر نجاعة". وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن تشكيل "أوبك للغاز" يعطي إشارة غير صائبة لمستهلكي الغاز الطبيعي في العالم.وأن ذلك يعني عادة التنظيم الذي يحاول كسب امتيازات عن طريق " فرض هيمنته على السوق".والمفارقة أن الاتحاد الأوروبي يفعل حالياً كل شيء من أجل أن تكتسب سوق الغاز الملامح التي تتصف بها سوق النفط، وبالتحديد حظر العقود الطويلة الأمد. فوضى وغياب معايير وعلى الرغم من ذلك، فإن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن الاضطراب لا زال سيد الموقف فيما يتعلق بسياسة تسعير الغاز.إن كثيراً من العقود الراهنة تربط تطور أسعار الغاز بتطور أسعار النفط. ولأن أسعار النفط تواصل ارتفاعها فإن الدول المصدّرة تتوقع أن يبلغ سعر الألف متر مكعب من الغاز خلال العام الجاري بين 300دولار و 350دولاراً في بعض أكبر أسواقه مثل أوروبا، بيد أنه لا شي يضمن اتفاقاً على هذه الأسعار. وتؤمن الجزائر أكثر من عشرة في المائة من احتياجات أوروبا إلى الغاز. وتسيطر سوية مع شركة "غاز بروم" الروسية على ما يقارب 40بالمائة من سوق الغاز الأوروبي. علما أن الجزائر تورد الغاز إلى المنطقة الأوروبية الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط، فيما تؤمن روسيا الوقود الأزرق للشمال الأوروبي بصفة أساسية.وقد لاح في الأفق مؤخرا ما قد يساعد روسيا على زيادة نفوذها في سوق الطاقة الأوروبية، إذ قررت بلدان آسيا الوسطى، تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، زيادة أسعار غازها. ويتوقع أن ترتفع أسعار الغاز في أوروبا بنسبة عشرين في المائة على أقل تقدير حتى العام 2020.وكمثال على الفوضى الدائرة في سوق الغاز، يمكن أن نشير مثلاً إلى أنه في صيف العام 2006، قررت شركة النفط والغاز الأوكرانية أن تبيع كميات من الغاز إلى أوروبا لتحسين وضعها المالي، وبما أن ما تستخرجه الشركة من الأراضي الأوكرانية يوجه إلى المستهلكين الأوكرانيين فقد قررت شراء كميات إضافية من الغاز التركماني لبيعها للأوروبيين. ولم ترفض تركمانستان الطلب ولكنها طالبت بسعر 100دولار لكل ألف متر مكعب (وكانت أوكرانيا تشتري الغاز التركماني بسعر 65دولارا). وأبدت أوكرانيا استعدادها لذلك، بيد أن روسيا تحركت وأفشلت المشروع في مهده، ذلك أن تركمانستان اقترحت أيضاً على روسيا أن تشتري الغاز التركماني بسعر 100دولار وهو ما رفضه الروس حينها.بيد أن روسيا وافقت بعد نحو عامين، على زيادة تركمانستان سعر غازها في النصف الأول من العام 2008إلى 130دولارا لكل ألف متر مكعب وفي النصف الثاني إلى 150دولارا. وأبدت روسيا استعدادها لدفع ما هو أكثر من ذلك مقابل استمرار تمتعها بصفة المشتري الأول للغاز التركماني وذلك حتى العام 2028.وعلى الطرف الآخر من المنطقة، تشتري الصين الغاز من بعض دول آسيا الوسطى وفق أسعار تقل عن نصف أسعاره العالمية، مستفيدة من قدرتها على فتح طرق جديدة لصادرات هذه الدول بعيداً عن روسيا. وعلى ضفاف قزوين، تفجرت الشهر الماضي أزمة بين تركمانستان وجارتها الجنوبية إيران، على خلفية رغبة الأولى تعديل شروط تصدير غازها للشمال الإيراني، والذي يحكمه عقد يمتد حتى العام 2018، وتحديداً، فقد سعى التركمان لمساواة سعر البيع لإيران بذلك الذي تم استحداثه مع روسيا، وهو ما رفضه الإيرانيون. والخلاصة هي أن تنظيم سوق الغاز يبقى في صالح المصدرين والمستهلكين على حد سواء، بيد أن هذا يمكن أن يحدث عبر هيئة تنسيقية تكتفي بوضع الخطوط الاسترشادية، وانجاز البحوث التي ترشد المصدرين والمستهلكين على حد سواء، وكذلك تعزيز مبدأ المشاورات وتبادل الآراء. وهذا يبدو كافياً في الوقت الراهن، لأن ميلاد " أوبك للغاز"، دونه تحديات هيكلية مرتبطة بصناعة الغاز وأسواقه الدولية، كما من شأنه أن يحدث تشنجات تنعكس سلباً على الدول المصدرة، التي هي بحاجة اليوم إلى قدر كبير من الاستثمارات المرتبطة بصناعة الغاز، كما البنى التحتية الضرورية لإيصاله للأسواق الدولية.وقبل ذلك كله، لا بد من قراءة فكرة "أوبك للغاز" في سياق المعطيات الجيوسياسية السائدة، التي لا تبدو مؤاتية.