في روايتها الجديدة «غايب» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تدخل بتول الخضيري في قلب الحدث العراقي. ومثلما فعلت في روايتها الأولى التي كانت مستلة من يوميات فتاة خلال حرب الخليج الأولى، تقارب روايتها الثانية الأوقات الصعبة زمن الحصار، تلك السنوات العجاف التي تولت إعادة صياغة التراتب الطبقي والثقافي لعراق الحاضر. حظى عمل الخضيري الأول بإعجاب مواطنيها، وخاصة بين عراقي المهجر، ومن المتوقع أن يجد عملها الجديد الصدى نفسه. ولعل سر نجاحها يكمن في صلة كتابتها بالحياة المباشرة والحميمية دون أقنعة أو تهويمات فكرية أو سياسية، فهي تتناول شخصيات وحوادث ممتعة وتنطوي على نكهة محلية يتقدم فيها صوت النساء وعوالمهن الشخصية. البيئة المدينية لبغداد تظهر في تبدل مواقعها واستجابتها إلى الحدث الذي تتناوله الرواية، وهي تحاذيه وتقتحمه، مثلما تجد نفسها في مواقع أخرى تستكمل من خلاله ملامح اناسها. صنّف الكثير من قراء الخضيري عملها الأول باعتباره شهادة على حقبة صعبة في عمر العراق، وتضاعفت بنظرهم قيمة تلك الشهادة بصدورها عن قلم لا يحسب على جهة سياسية، ولعل هذا التصور يثقل الروايات بحمولته، ويمنع عنها أحكام القيمة الفنية، بل يشوش مقاييس التناول النقدي في أحايين كثيرة. يتوازى في رواية «غايب» الجهد الإعدادي أو ذاكرة الأرشيف مع جهد صناعة الشخصية، فقدرما تسعى الكاتبة إلى الابتعاد عن صناعة النموذج، أو الشخصيات التي تمّثل على مسرح الأفكار،تهتم بالمادة الخام، المادة التجميعية التي تقدم فيها ما يشبه الخبرات المكثفة لصناعة النحل والأعشاب الشعبية، مثلما تقدم موتيفات لصورة الخسائر المادية والمعنوية التي مر بها الناس زمن الحصار والقصف المستمر لمدن العراق، وهذه الأخيرة اغلبها عمومية كتبت في الصحافة العربية والغربية. وفي الظن أن سياق سردها لا يحتاج تلك المعلومات المؤطرة على هذا النحو، فهناك استبطان للحدث يبدو على درجة من الانسيابية حين يروي قصة الحصار من خلال انتقال الناس في الأماكن وتبدل أنماط حياتهم ومفاهيمهم. السارد في هذه الحالة يدخل الخيال ويخرج منه في عملية مبادلة بين التجربة وما يمكن أن تمثله في الواقع، وعبر عملية البحث والتجميع حاولت الكاتبة التعويض عن نقص المعايشة في الزمن الموقوت أي زمن الحصار، وكان أمامها وهي تختبر بيئة العمل، ذخيرة من الذكريات التي تستبطن التقاليد والأفكار والمرويات الشعبية، وتدرج ضمنها النكات والوقائع والترديدات والأغاني وطرق التواصل بين الناس، وقد استخدمتها خلفية أساسية لتأطير مادتها التي تتحدث عن زمن دراماتيكي تقلبت فيه أهواء وأمزجة الابطال ومصائرهم على نحو غير مسبوق. كان التدهور الاقتصادي والحرب والقمع عوامل أساسية في إرباك اختبارات الناس لأنفسهم، وفي تحولات وعيهم المتواترة كانوا يتخطبون في فوضى أفعالهم، هذه الفوضى فرضت على الكاتبة أو منحت الكاتبة تلك المساحة الرحبة للتحرك بين تلك الوقائع وتقديمها بطلاقة وحيوية، ولكنها في عملية المونتاج أو إعادة لحمة الحوادث المتخيلة أو المفترضة، كانت تفتقد إلى قوة التماسك الذي تستطيع بواسطته تجاوز إغراء السرديات المقحمة في الرواية. ترصد بتول الخضيري في روايتها الزمان والمكان في يوميات عمارة في قلب بغداد «الحصار الاقتصادي يزحف في عمارتنا التي تظل على ساحة الجندي المجهول من جهة، وعلى نادي العلوية من جهة ملاعب التنس». أي المكان الذي كان يشكل ساكنوه نواتي التمدين والثقافة في عراق الماضي. التبدلات التي تطرأ على هذه العمارة التي كانت تسمى عمارة الاساتذة في السابق، هي النواة الأساسية للرواية أو هي النقطة الزمنية التي تجذب التداعيات التي يستخدمها السرد كمرجع في رصد التواريخ وعروض الشخصيات. فهناك عملية إرغامية لمغادرة ماضي العز والرفاه، والدخول في تطفل الحاضر الذي يسعى بقسوة إلى محوه والتمدد داخله مثل وحش خرافي. ولعل معالجة الكاتبة التي تنطلق من وعي مركب لمفهوم الحصار، واحدة من أهم عناصر الرواية نجاحاً، فاستعراض الناس لأنفسهم من خلال الحوار والفعل، يبدو على درجة من الاستقلالية الذي يتيح للسارد مساحة رحبة للتحرك دون مهمات توكلها لنفسها الرواية الوعظية أو الاستنكارية أو تلك التي تنعي الأزمنة القديمة. ومع أن الأبطال يستذكرون ماضي رفاههم، بيد أن استغراق النص في تقديم عملية الاندماج السريع واللحظوي للناس مع التبدلات القسرية، أوجد مساحة للتواصل في صياغة الشخصية الجديدة وهي شخصية متحركة حيوية تنير المساحات التي حولها وتمنحها خطابات متعددة. دلال الشخصية الرئيسية التي لم قاست في الحياة كثيراً، هي الابنة المتبناة من قبل خالتها التي لم تنجب من زوجها طفلاً، زوج الخالة الذي كان كريماً مع الطفلة فضل أن يسمى بأبي غايب، على أن يحمل اسم ابنة ليست من صلبه، مأساة الوالدين المتوفين في حادث تصادم سيارة، كانت واحدة من مسلسل المواعيد الصعبة التي مرت بها الطفلة، غير أن المسافة التي أبقتها خارج سياق الاحتضان الكامل أو الالتصاق بمشاعر البنوة، قد مكنتها من استخدام العين الداخلية التي تربط السلوكيات والتصرفات على نحو موضوعي. أبو غايب الذي يمثل الشريحة المتمدينة، والخبير بالفن التشكيلي وحضارة وادي الرافدين، يصاب بحكاك مرض الصدفية، وتستخدم البطلة مرضه في محاكاتها الساخرة لمأزقه بعد أن ارتج موقعه الاقتصادي، غير أن السرد يمضي أبعد من هذا في محاكاته الساخرة للواقع، فالخالة التي تشكل معادلاً ضرورياً لرصد التقارب والتباعد في العلاقات الإنسانية خلال الحصار، لا تنجو من القفشات، مثلما تبدأ البطلة التي تصاب بمرض اعوجاج الفم، في الدخول مع خالتها إلى عالم البطلة الجديدة التي تطل عبرها ملامح بغداد الجديدة. أم مازن قارئة الفنجان والطبيبة الشعبية القادمة من الريف إلى هذه العمارة تصبح اللولب في تحريك الحياة فيها: «قصيرة مربوعة، رأسها مغلف بفوطة سوداء تلتحم بدشداشة سوداء وعلى كتفيها تتهدل عباءة سوداء». دورة الزمن في الشقة التي اشترتها أم مازن من عسكري صامت، تحمل الكثير من الدلالات. فشقة أم مازن في الأصل تعود إلى عائلة يهودية، انتقلت ملكيتها إلى العسكري الصارم بعد أن حمل هذه العائلة إلى المطار واستولى على بيتهم. الحرب والحصار يستبدلان الأماكن والناس، فأم مازن تأتيها النساء لفتح الفال والتطبب، وشخصيتها تمثل حالة نموذجية سادت العراق بعد أن أطبق الضيم والضنك حصارهما، فعادت النساء إلى زمن السحر والخرافة حين اضنتهن الحروب والفاقة وغيبة الازواج. شخصية أم مازن، تحمل دلالات جد ذكية في مؤشر السرد، انها التعبير عن احتلال الريف للعاصة وظهور الشرائح الجديدة التي انبثقت من القيعان المظلمة للمجتمع ومدت جذورها بين ثنايا ارتباكاته. فهي مشردة في طفولتها ومهربة بضائع بين الكويت والعراق، عاشت حياة الاحتيال حتى خبرت مهنتها الجديدة. لعل حضورها الفاعل يمثل انتكاسة الوعي الحضاري الذي شرعن الخوف كل أسبابه. بيتها وعملها يستخدمان ضمن ممكنات التقنية في الكشف عن وجه العراق الجديد، فتصبح قصص النساء وثرثراتهن مفاتيح الإطلالة على أسرار تفكك قيم اجتماعية وظهور أخرى بدلها. لكن صوت السارد أو أنا المتكلم لا تمثل حالة من الوعي تنفي أو تستنكر هذا الوجود الدخيل إلا ضمن برهات محدودة، بل تجري عملية الدمج والاستغراق بل والتماهي مع أعمال السحر والشعوذة في أسلبة متواترة للحوار والأفكار. يهرب صوت البطلة من المأساة عبر محوها بالجد الهازل، فهي شخصية متجاوبة تنتقل بين درسها للغة موليير وراسين، وبين عملها مساعدة لحلاق ومربية نحل مع زوج خالتها، وهي تجيد كل تلك المهن وتردد وصفاتها مثل تلميذة نجيبة. وما تنتزعه هذه المعلومات التي تبدو فائضة من قدرة الشخصية على مقاربة الواقع، تحاول الكاتبة عبره الإمساك بما تراه مفككاً أو غير قابل للامتلاء في بنية الرواية. كل شخصية في الرواية تحظى باهتمام في تكوين السرد، فعلى الجانب الآخر من مجتمع أم مازن، يشكل حلاق النساء مجتمعه الخاص، وهو في صداقته غير المشروطة للنساء ولدلال الطالبة الجامعية التي تعمل مساعدة له، يخلق أمكنته المثالية التي تستعيد بعض سعادات الأيام الخوالي. ولكن صدمة النهاية التي تكتشف فيه دلال علاقته بالمخابرات، واستدراجه لها عبر صديقه الذي يوهمها بالحب وهو مسؤول أمني خطير، يشكل خط السباق الأخير في الأوجه المتناقضة للمأساة - الملهاة التي تقاربها الرواية. تكشف المناحل التي أشادها أبو غايب في حديقة النادي، أسرار الجثث المكدسة على مبعدة منها. دلال تعرف الحقيقة بفضول الطفلة فيها، ولكن النحل الذي يقتات على الدماء، يجعل العم يقامر بكل ثروته من اللوحات الفنية كي يطّهره من الدنس. ويدفع الثمن غالياً، حينما يقتاده الأمن إلى جهة لن يعود منها. تحاول بتول الخضيري في هذه الرواية أن تجد في حوار الشخصيات هويات منوعة لروايتها، وهي في الغالب، تلتقط التمايزات من فكرة الاحتراف أو خبرة العمل، فلغة الحلاق الانثوية اللينة، تتقاطع مع اللغة الثرة لأم مازن التي تمتهن السحر وتستغرق في تحضير خلطات الأعشاب والتعاويذ. كما تختلف لغة العم الفنان الذي اضاع بوصلته، عن تلك اللغة التي تديرها الخالة عن عالم الخياطة والازرار بعد أن هجرت مهنتها الأولى كمعلمة مدرسة. كل تلك اللغات التي تحظى باهتمام السرد، تتحاور من خلال شخصية البطلة التي لا تقف على مبعدة منها بل تتماهى معها. فهي تتحول إلى خبيرة نحل وحلاقّة، كما تجد نفسها على معرفة الكثير من أسرار الطلاسم والخلطات وترديدات قارئة الفنجان. النكتة المتداولة تؤطرها الرواية في حدث يقوم على تغريب مقلوب لها، فالامهات اللواتي تشغلهن فكرة عذرية البنات، مصنوعات من المُلح والخرافات العراقية المتداولة. تعيد المؤلفة إنتاجهن على هيئة شخصيات تدخل بسرعة وتخرج من الرواية، وكأنها تستكمل برنامجاً ناقصاً في زج البئية دون معالجتها بطواعية وعفوية. وفي كل الأحوال تبقى للرواية قوة الإثارة ومتعة المتابعة إلى النهاية، مع ما تنطوي عليه من قدرة على تصوير تحولات المجتمع على نحو ذكي وشفاف.