تربطني بالعيينة؛ المكان والإنسان، روابط وثيقة من التواصل الإيجابي؛ المثمر بِرّاً وخيراً وبركة، كما احتضن تأريخ بطحائها ذكريات الآباء والأقارب؛ حينما كانت المتنفس الأقرب لمساكن وقلوب كثير من أهل الرياض، وباتت تلك الذكريات الجميلة في خدرها، ناراً تحت الرماد، حتى هبَّت -ذات يوم- الرياحُ الطيبة؛ لتحملَ لي مع نسائمها المنعشةِ ارتعاشةَ أغصانِ الذكريات بِرِقَّةٍ، أثارت الحنينَ للمكانِ واللحظاتِ، بل للإنسانِ، الذي أحيا ذلك المكان وتلك الحظات. والذي أوقد -مشكوراً- النارَ تحت الرماد، جاري العزيزُ المهندسُ محمد بن سعد بن معمر؛ حين أهداني كتاب:(صفحات من تأريخ نجد: إمارة العيينة، وتأريخ آل معمر) لمؤلفه الباحث الأستاذ عبدالمحسن بن محمد بن معمر؛ فاشبعت شغفي بتأريخ تلك البقعة؛ مقلّباً تلك الصفحات، وكأنني أمام دائرة دولاب الزمن، ينتقل بي من شغف إلى شغف؛ فأنَّى لي أن أرتوي حين أكتوي شوقاً وحنيناً للحظات البِرّ، والأُنْس! بدأ المؤلف كتابه بالثناء العطر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- لتخصيصه أوقاتاً ثمينة لمسوَّدة الكتاب في مكتبة قصره، وما أفاض عليه من توجيهات وآراء كان لها الأثر في ظهور الكتاب بالمظهر العلمي الذي يستحقه، ثم قدَّم لهذه الصفحات علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- منوهاً باتجاه مثقفي هذه البلاد من الشباب بخاصة لدراسة تأريخ بلادهم، وإظهاره بصورة مشرقة، وما بذله المؤلف من جهد، وما ذكره من الأماكن والأحداث التأريخية، وبعد ذلك جاء الفصل الأول من الكتاب مبرزاً (البيئة الطبيعية) للمكان؛ من حيث التكوين الجيولوجي والتضاريس والمناخ والموارد المائية والنباتات الطبيعية والحيوانات البرية، فأوضح الشكل الجيولوجي للعيينة، المكون من الصخور الرسوبية على هيئة أقواس كبيرة، ومعرفاً بتكوين طويق، وتكوين حنيفة، وتكوين الجبيلة، ثم ألقى الضوء على تضاريس العيينة وعن حوضها الشامل لجميع الأودية والشعاب والروافد والمجاري المائية، والمنطقة الجبلية بجبالها وسفوحها وظِهارها، والمنطقة السهلية على ضفتي وادي حنيفة وضفاف روافده، معرفاً بجميع أوديتها وفي مقدمتها وادي حنيفة، وشعابها مثل أبو برقا وأبو قصر، ورياضها وبخاصة الشهيرة منها مثل روضة عقرباء، وظهارها مثل ظهرة سدحة، وقُرَيَّاتها مثل قُرَيّ الخبل وقريّ وطبان، وقري الحيسية وقري الأحيسي، ورجومها من البناء الحجري الأسطواني أعلى الجبال مثل رِجْم أم رجيم؛ مورداً ما أوردته المصادر التأريخية القديمة والحديثة بخصوصها كلها، ثم انتقل للحديث عن مناخ العيينة، وعن ضغطها الجوي، وكُتَلِها الهوائية، وأمطارها ورياحها؛ منوهاً بأن طبيعة تضاريس العيينة وصفاتها المناخية جعلتها متميزة عما حولها، وشرح بأسلوب ميسر الموارد المائية في العيينة مشيراً إلى الحكار التي تشبه السدود وتستخدم لحفظ الأمطار وللتحكم في مسيلها كحكر ابن معمر، وإلى المداريج أو المدرجات ذات البناء الحجري المتعرج، وإلى المطوي بالحصى في شكل صفوف وإلى الصُّنُوع ذات البناء من الحصى في صفوف متراصة ومتعرجة بهدف تصريف مياه السيول للمزروعات، ومنوهاً إلى مصدر مائي مهم وهو مياه العيون حول جبل مصيقرة، مشيراً إلى أن الشيخ ابن خميس -رحمه الله- رجَّح أن العيينة سميت بهذا الاسم نسبة لهذه العين، التي لم يبقَ منها سوى مجاريها، ثم أشار إلى نوع من العيون سماه العين الموسمية تسمى عين ابن معمر ذكرها لوريمر في دليل الخليج، كما أشار إلى المياه الجوفية السطحية والعميقة والمياه المعالجة، بعد ذلك تحدث عن التربة، والنباتات الدائمة والنباتات الموسمية مبيناً أنواعها وأوصافها الغذائية والطبية والعطرية الخ ثم فصّل الحديث عن الحيوانات البرية والطيور والحشرات في العيينة من حيث أقسامها وأنواعها وصفاتها. وفي الفصل الثاني ألقى الضوء على (سكان العيينة) من حيث النمو السكاني وتوزيع السكان وتركيبتهم وحيويتهم والأسر في العيينة مستنداً إلى ما ذكرته المصادر التأريخية، وما حدث من تطورات تأريخية وجعل المؤلف الفصل الثالث (دراسة عمرانية للعيينة) من حيث النشأة والاستخدام العمراني وما ترتب عليه من توسع المنطقة واتصالها بالعاصمة. وكان (النشاط الاقتصادي لسكان العيينة) هو الفصل الرابع من هذا الكتاب الشائق متناولاً النشاط التجاري والإنتاج الزراعي والصناعات والحرف والحياة الرعوية وما توافر من مصادر اقتصادية أخرى، وخصص الفصل الخامس ل(معالم العيينة) مفصلاً الحديث المؤصَّل من المصادر والمراجع عن المعالم القديمة مثل الكتابات القديمة ومقبرة الصحابة شهداء اليمامة، والأسوار والحوامي، وعن المعالم الحديثة كالقرية الشمسية وكلية الملك عبدالعزيز الحربية وأنابيب الزيت، وفي الفصل السادس تحدث المؤلف عن (الدوائر الحكومية في العيينة) وتناول في الفصل السابع (نبذة تاريخية عن العيينة) عبر العصور، ثم استعرض في الفصل الثامن تأريخ (إمارة العيينة 850-1173ه) ذاكراً مؤسِسَها وشراءَها ونسب أسرة آل معمر وأمراءها وعلاقتها بالقوى المحلية والإقليمية وبعض علمائها وقضاتها وتحدث في الفصل التاسع عن (الدعوة الإصلاحية وموقف آل معمر منه) وفي الفصل العاشر تناول (سقوط الدرعية) ذاكراً الدفاع عن الدرعية وشهداء آل معمر وحالة نجد وماحدث من تطورات تأريخية بخصوص السلطة والإمارة آنذاك، وفي الفصل الحادي عشر تحدث عن (مشاركة آل معمر في توحيد المملكة في عهد الملك عبدالعزيز) مثبتاً مراحل التوحيد والمشاركين فيها من آل معمر وذكر أربعة وعشرين من أمراء آل معمر مع نبذ تأريخية من سِيَرِهم واختتم المؤلف كتابه بالفصل الثاني عشر ب(ترجمة لبعض أعيان أسرة آل معمر) حيث ذكر اثنين وعشرين من أولئك الأعيان، ولعله -لعدم إضافة ما استجد- أغفل عدداً منهم ممن حصلوا على أعلى الدرجات العلمية مهندسين ودكاترة في مختلف التخصصات، وبعضهم تبوأ مناصب حكومية رفيعة. والكتاب صيغ صياغة أدبية سهلة ممتنعة، مع الحرص على التوثيق العلمي الرصين، وكان -بحق- إثراءً جميلاً لتأريخ هذه المنطقة من بلادنا الحبيبة ووطننا المعطاء.