في القرآن الكريم بين اللاتناهي والحظ واللفت والمنّة والتزييف. فصيغة الجمع «أقلام» دلّت على لا تناهي علم الله سبحانه، واستعملت صيغة الجمع لمناسبة كثرة الأقلام، فمهما بلغت لن تتناهى إلى تقصي علم الله سبحانه وتعالى «ولو أنّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم» [لقمان: 27]، أمّا الحظ فكان من نصيب من كفل مريم عليها السلام «يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم» حينما اقترعوا. وصيغة الإفراد، فيها لفت إلى شأن القلم في أوّل نزول القرآن الكريم، وقيمته عند أمّة أوتيت تاج البيان الإنسانيّ، وبرعت فيه، ولكنها لم تعرف ما فوقه من بيان إلهيّ، فجاءت آية «علّم بالقلم» التي لفتت إلى سرّ القلم، كما تقول عائشة عبد الرحمن بعد أن ساقت بعضاً من أقوال العلماء: «وحيث لا مجال للإشاريات في منهجنا، نطمئن إلى أنَّ الآية لفتت إلى سِرِّ القلم، من حيث هو أداةُ الكتابة التي يُدوّن بها العلم ويحفظ، وينتقل على امتداد الزمان والمكان، وتتابع الأجيال. ويتسع المقام لكلّ ما عدّه المفسرون من شَرف القلم وفوائد الكتابة، على أن يظل للبيانِ القرآنيّ دلالته في لفت النبيّ الأميّ والعرب الأميين إلى جلال القلم، آيةً من آيات الخالق الذي خلق الإنسان من علق، وعلمه ما لم يكن يعلم». وأضيف إليها أن سياق سورة العلق سياق المنّة الإلهية بالتكريم والخلق والتعليم، فهنا ارتبط القلم بهذا السياق، وهو سياق المنّة، ولا ريب أن أول ما سيُكتب ويخط هو «القرآن العظيم»، وهذا يربط بما سيأتي من كلامٍ لها في سورة «القلم»، فالمنّة الإلهيّة علّمت الإنسان بالقلم، علماً لم يكن يعلمه، وسيسطّر القرآن في كل ما يمكن أن يسطّر عليه، ليُقرأ ويكرر ويعظّم شأنه عند المؤمنين به، ويدعى غير المؤمن به إلى تعلّمه ليهتدي إلى سبيل الحق. وحدث الرسالة المحمديّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والوحي يستدعي أسئلة نحو: هل هناك مكتوب قيل إنه من عند الله؟ وبحسب «بنت الشاطئ»، فإن سورة القلم فيها إشارة للمسطور المزيّف أو المحرّف على أقل الأحوال، إذ سينزع من يحارب النبي صلى الله عليه وسلم لمضاهاة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت آية القلم «والقلم وما يسطرون»، فالواو خرجت للدلالة على «اللفت» لا القسم، لفت لوظيفة القلم وقيمته في العلم والكتابة، وأيضاً ربط بالكلمة التي تليه، والضمير الدال على المحرّفين لتسطيرهم ما لم يأتِ من عند الله، أو لتحريفه، تقول: «والذي نطمئن إليه -والله أعلم- هو أن تكون الواو هنا خرجت عن معناها الأوّل في القسم للتعظيم؛ لملحظ بيانيّ، هو اللفت إلى ما عهدوا من أمر القلم والكتابة واعتمادِهما على سرّ الحرف، توطئةً إيضاحية للردِّ على جدل المشركين في كلمات الله تعالى. والأقرب عندنا أن يكون الضمير في «يسطرون» لمن كانوا ينقلون من العرب أساطير القدماء ويحاولون أن يُشبهوا القرآن الكريم بها، إذ نلمح في إيثاره «يسطرون» على «يكتبون» ما يتجه به إلى قوله تعالى في الآية بعدها في سورة القلم «إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين»... هم إذن كانوا على علم بأساطير الأولين، وفيهم من كان يكتبها، ويتلو منها تحدياً للمصطفى عليه الصلاة والسلام... وهذه هي آيات الكتاب المعجز معروضة عليهم بلغتهم وحروفهم فليقابلوها على ما لديهم مما كانوا يسطرون». ولعل في الحرف «ن» في أول السورة سرّ يربط بما سبق من تحديهم من جنس حروفهم. وعند الجمع بين المنّة بتعليم الله بالقلم سبحانه، والمقابل المفتري على الله لمجرد التسطير، قد نجد في سورة القلم أيضاً دلالة مهمة «بأيّيكم المفتون»، فالفتنة هنا من قِبل من فُتن بظاهر مسطور، فتنه عن الحقّ فضلّ، وسيأتي اليوم الذي يبصرون حقيقة من المفتون «فستبصر ويبصرون».