لقد عايش الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مجتمعه السابق في مكة، نظمًا وتقاليد متطورة، فكانت ثمرة اتصال أهل مكة بالعالم الخارجي وبين بعضهم تحدث في ما سُمي النادي أو الندوة، فيزورها أهل الحبشة واليمن وأهل الشام، وكل من حمل علاقة تجارية مع أهل مكة، ولعل أبرز تلك التأثيرات كان بناء دور خاصة، تناقش فيها أمورهم، فيما ينوهم، وفيها أرادوا من نكاح أو حرب. وقد اتخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع مبدأ هجرته إلى قباء، مجلسين، أحدهما لسكنه والآخر يجلس فيه مع الناس، ولما انتقل من المدينة إلى قباء، صار مقره هذه المرة في المسجد، إذ يعقد ليلًا لتفقد أحوال الصحابة، حيث رأى -صلى الله عليه وسلم- أهمية الاجتماع بأصحابه وأتابعه يوميًا ليسأل عنهم ويحرص عليهم. وقد يجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه أوقاتا يباسطهم ويمازحهم، وأوقاتًا يفتي عليهم ويثقفهم ويلقنهم عن الدين ما تيسر، وينصحهم في شتى أمور الحياة، وتخرج معظم الأحاديث عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- من هذه المجالس والمناقشات، وكان من الصحابة رجل يلقب «حمار» كان يُضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في هديه عكة من السمن أو العسل، ثم يجيء، بصاحبها فيقول: أعطه الثمن يا رسول الله. وكان للأنصار مجالس للسمر والترويح، تعرف بهم، وقد أقرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن تكون بعيدة عن البذاءة ومسابة الناس، وكان حسان بن ثابت، يجلس إلى أطمه، فارع، ويجلس معه أصحاب له ويضع لهم بساطا يجلسون عليه، يتطارحون شجون الحديث، ويتبادلون فنون الشعر، فتعد هذه المجالس نقطة التقاء شائعة للغاية حينها. كما كان للأنصار أمكنة خاصة لتداول الرأي والمشورة في الأمور المهمة والعظيمة، وتسمى السقيفة. كما كان لسائر المهاجرين من القبائل مجالس خاصة للسمر وتطارح الحديث، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يقف عليها ويمازحهم ويضحك معهم. كِتاب: مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤلف: د. عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس