يستحضر الحديث عن الماضي صورًا نابضة بالحياة لمن لم يعاصروه، كنافذة تُطل على زمنٍ تتجلى فيه العادات والتقاليد التي اندثرت أو أوشكت على الاندثار. ورغم التقدم الذي نشهده اليوم، فإننا بحاجة إلى الكثير من تلك القيم والممارسات التي صنعت مجتمعًا متماسكًا، حيث الأصالة كانت جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة. إن عبق الماضي لا يُستعاد بالكلمات وحدها، فهو سلسلة من الصفات النبيلة التي حفرت أثرها في وجدان من عاشوه. هذه الأصالة لم تنقطع، بل تجلّت في تفاصيل حياتنا اليومية، سواء في المحلات والمقاهي، أو في مداخل المنازل التي تحاكي الطراز القديم بروحٍ معاصرة. كان الماضي، رغم ما شابه من صعوبات، زمنًا من التآلف والقيم الراسخة، حيث لم تكن الخلافات تستدعي شهورًا من الانتظار في أروقة المحاكم، بل كانت تُحل فور نشوبها من قبل الحكماء، عبر أعراف تُنصف الجميع. ومن هذه الأعراف، "المعدال"، حيث يُسارع أهل المعتدي إلى تقديم ما يُعرف بالمعدال -كالسيف أو الجنبية- للمُعتدى عليه، تعبيرًا عن الاعتذار واستعدادهم للتعويض. ثم يأتي "النقى"، حيث يُقتاد المعتدي مع وجهاء القوم إلى دار المعتدى عليه، في مشهد رمزي لا ينتهي إلا بعفو كريم. في الأسواق الشعبية، كانت المجالس محاكمَ مفتوحة، حيث يتولى العقلاء دور القضاة، لا يسعون إلى مكسبٍ أو منصب، بل يعملون لوجه الله. ومن بين الوسائل التي استخدمت في إثبات الحقوق، وضع دائرة على الأرض يدخلها المتهم ليحلف اليمين، تطبيقًا لقاعدة: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". الحياة في ذلك الزمن كانت قائمة على الاحترام والحياء، فلم يكن يُسمح بتجاوز الحدود، لأن من يُسيء يُفضح بين الناس ويُصبح وصمة عار. فالحياء زينة الرجال والنساء، والمجتمعات تقوم على الثقة، فلا حاجة إلى أسوار عالية أو حراس لممتلكات لا يجرؤ أحد على المساس بها. أما اليوم، أصبحنا نعيش في عزلة رغم ازدحام المدن وباتت المظاهر تُسيّرنا، والتفاخر يغلب على الجوهر، والجشع يُسابقنا منذ لحظة الاستيقاظ. في زمن القلوب الصافية، كنا نجتمع حول فانوس الكاز، نستمع إلى عبد الباسط وهو يتلو القرآن، ثم إلى أم كلثوم، والإذاعة، لم يكن اللحم حاضرًا على موائدنا إلا في المناسبات، لكننا كنا نشعر بالشبع برغيف الذرة الدافئ، لم تكن الولادة تحتاج إلى مستشفى أو طبيب، بل كانت امرأة من القرية تتولى الأمر، وطفلٌ جديد يولد على صوت أمه وهي تُمطره بالدعوات، الماضي لم يكن مثاليًا، لكنه كان بسيطاً، نقياً، قائماً على قيم تُشكّل هويتنا.