الجملة التي بدأ بها المخرج السعودي العالمي عبدالله المحيسن أثناء تكريمه في حفل «جوي أووردز» لعام 2025، بمنحه جائزة الإنجاز مدى الحياة، تقديرًا لإسهاماته البارزة في مجال السينما السعودية والعربية، «أنا رجعي» كانت جملة صادمة، حساسية الجملة أنها كانت تمثل شعارا لأعداء السعودية خصوصا ودول الخليج بصورة عامة في الستينيات الميلادية، وتحديدا من التيار الناصري الذي كان يقوده الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر، مصطلح «رجعية» كان يُستخدم لوصف الدول أو الأنظمة التي اعتبرها الناصريون تعارض التحولات الثورية والاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة، وتميل للحفاظ على التقاليد والنظام السياسي القائم. الإعلام المصري وخصوصا من خلال إذاعة صوت العرب الشهيرة بتلك الفترة، ركز على تصوير السعودية كدولة تدعم القوى الغربية وتقاوم التغيرات السياسية التي كانت تدعو لها الحركات القومية والثورية في المنطقة، بينما كانت السعودية تعتبر أن التوجه الناصري يمثل تهديدًا للقيم الإسلامية التقليدية، خاصة أن عبدالناصر كان يُروّج لفكرة القومية العربية التي اعتبرتها السعودية بديلًا عن الهوية الإسلامية، وبالمقابل الإعلام السعودي ركز على تصوير الناصرية كحركة تبتعد عن الدين وتتسبب في زعزعة استقرار الدول. لماذا أعادنا عبدالله المحيسن لهذه المرحلة، والتي تأثر بها للأسف في تلك الفترة الكثير من السعوديين، بسبب قوة المكينة الإعلامية المصرية وسيطرتها على العالم العربي بإعلامها ومثقفيها وحتى نجوم فنها، كان المحيسن جريئاً وهو يتحدث بالمحفل العالمي الذي تستضيفه الرياض، بأن يكون صوته عالياً وهو في بلد نجحت بالتغلب على الأفكار الهدامة، التي مرت بها الكثير من الدول، والتي تراجعت سياسيا واقتصاديا، وتقدمت عالميا الدول التي كانت يتهمونها بالرجعية، وهو المصطلح الذي استخدمه التيار الناصري كتقليد للحركات الثورية في القرن ال19 وال20، في أوروبا، حيث استُخدم مصطلح «رجعي» بدلالة سلبية، حيث ارتبط بمقاومة التقدم والحداثة.! المحيسن أعاد تعريف الرجعية عند السعوديين بصورة مختلفة، فالتمسك بالجذور والأصالة ليست رجعية بل هي ضرورة لتأسيس هوية مستدامة ومتطورة، وأنها كمفهوم تمثل التوزان بين ماض له حضارة وجذور وقيم ثقافية أصيلة وبين حاضر متطور نتفاعل ونتعايش معه، وأن الرجعية ليست حالة ثقافية فقط بل هي أيضا حالة إنسانية تدعو إلى الاستفادة من تجارب الماضي، والأهم أنه خلال مسيرة عمله خلال خمسين عاماً كمخرج سعودي له مكانته العالمية، اعتبر أن الرجعية هي الحفاظ على القيم الأخلاقية والإنسانية في وسط العولمة والحداثة، وهي من وجهة نظره دعوة لبناء جسور معرفية وفكرية وسلوكية بين الأصالة والمعاصرة. فكر عبدالله المحيسن الذي ترتكز عليه فلسفته السينمائية استطاع خلال دقائق بكلمته ان ينبش مرحلة تاريخية، وأن يحول شعار سلبي ضدنا، إلى مصطلح إيجابي عكسه التقدم الحضاري الذي نعيشه بالتمسك بقيمنا وموروثنا الإسلامي والعربي، وبالمقابل الدول التي كانت تدعي أنها تقدميه سقطت أفكارها ومعتقداتها، وما زالت آثار هذا السقوط مؤثرة حتى وقتنا الحاضر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا عليها، بينما السعودية ودول الخليج استفادت من رجعيتها.