عندما نقول المكان فإن ما يتبادر لأذهاننا في الوهلة الأولى هو الموقع الجغرافي، والمحيط الذي نعيش فيه، وهذا يُعد المعنى اللغوي، ولكن في الحقيقة والواقع الإنساني أن المكان يتجاوز كل البقع الجغرافية، وكل الخطوط الحدودية، وكل اللافتات الصامتة التي تشير إليه، المكان يحمل أبعادًا أخرى متصلة بالنفس البشرية، فالإنسان يرتبط روحيًا وعاطفيًا بمكانه، ابتداءً من البيت ذلك المكعب الصغير الذي عرف من خلاله الحياة، ومرورًا بالحارة، ووصولًا للمدينة والوطن، ليشكل في النهاية لوحة حنونة من الارتباط والانتماء والولاء، نحن كبشر نتعامل مع المكان وكأنه كائنٌ حي لأنه يحمل الكثير من التفاصيل الحيوية، والكثير من الحكايات العميقة فهو يملك الذاكرة والرائحة والشعور، هو يستطيع إثارة عواطفنا وبعثرة مشاعرنا وإتزانها، نحبه، نهجره، نغضب منه، نشتاق إليه، ونجعله في قائمة أحداثنا، المكان جزء لا يتجزأ من الإنسان، ونحن حين نتحدث عنه لا نصِف جدران أو ألوان أو حدود إسمنتية، ولا نصِف معالم أو طرقات أو صخور، بل نصِف شعور وتفاصيل وحكايات، نصِف حياة بأكملها، لذلك وإن غادرنا مكاننا الأول وإن تعددت الأماكن في حياتنا سيظل لكل منهم حكاية عميقة جدًا في داخلنا، حتى الذكريات السيئة لن تلغي قدسية المكان،لأن له تأثير هائل على الإنسان سواءً بالسلب أو الإيجاب، وعلاقة الإنسان بالمكان ليست حديثة بل هي علاقة أزلية منذ الإنسان القديم، حيث هيمن المكان وكان له دور عظيم في تسيد الأحداث، ولو نظرنا إلى الأدب العربي والعالمي لوجدنا أيضًا تحيز الشعراء والأدباء للأماكن، وإعطائها القيمة العالية التي تمكنت من الوصول إلينا كقراء، بل أصبحنا نتوق للأماكن التي نقرأ عنها وإن لم تخصنا، أصبحنا نتفاعل إجبارًا مع مشاعر الآخرين نحو أماكنهم، لذا يُعد المكان ركيزة داعمة للحياة وللحنين وللذاكرة، لا أعرف هل علاقتنا بالأماكن علاقة صِحيَّة أم لا؟ وهل يجب أن نتعامل معها كجمادات حتى لا تترك تلك الآثار السلبية عند انفصالنا عنها، أو عند إصابة أيامنا فيها؟ وهل ارتباطنا بالأماكن حالة عرضية سنُشفى منها مع العمر أم أنها ستلازمنا مدى الحياة ؟ تراودني تلك الأسئلة كثيرًا عندما يصيبني وخز الحنين، وعندما أعبر من الأماكن المهجورة التي تشي بالروائح والحكايات، وعندما أجد آثار الناس عليها بعد أن رحلوا، الأماكن ليست جغرافيا بل هي الحيز العميق من العمر.