كما تصدر نسخة جديدة من الهواتف كل عام، يبدو أن عالمنا يشهد ظهور اضطرابات نفسية جديدة بوتيرة متسارعة. أسماء غريبة بدأت تتردد على أسماعنا، مثل: اضطراب تبدد الشخصية، الاضطرابات الانشقاقية، وحتى فوبيا لكل حركة قد يقوم بها الإنسان، وكأن البشرية تخترع مشاعرها ومخاوفها من جديد. في الماضي، كانت الحياة أكثر بساطة. كثير من المشاعر التي نمر بها اليوم كانت تُعتبر جزءًا من الطبيعة البشرية أو مجرد تقلبات مزاجية مؤقتة. أما الآن، فقد تحولت إلى حالات تشخص وتصنف وتُدرس، وأحيانًا تُعالج كأمراض تحتاج إلى تدخل متخصص. العيادات النفسية تعيش أزهى عصورها، ومعها ظهرت مهن ووظائف جديدة لم نسمع بها من قبل: مدرب حياة، مختص علاقات اجتماعية، مستشار للتعامل مع القلق، وحتى خبراء للتعامل مع اضطرابات لم تكن تُعرف أصلًا قبل عقود. لكن هل هذا يعني أن هذه الأمراض لم تكن موجودة من قبل؟ أم أننا فقط أصبحنا أكثر وعيًا بها؟ وهل الزيادة في التشخيصات دليل على وعي حقيقي بالصحة النفسية، أم أنها مبالغة في التعامل مع ما كان يُعتبر طبيعيًا؟ لا يمكن إنكار أن العالم الحديث بتغيراته وضغوطه قد خلق بيئة مثالية لظهور هذه الاضطرابات، أو على الأقل لتسليط الضوء عليها. التكنولوجيا، مثلًا، وضعتنا في حالة دائمة من التحفيز والإجهاد. نحن نعيش تحت ضوء الشاشات، ونتنفس عبر منصات التواصل، ونقارن أنفسنا بالآخرين باستمرار. كل هذا جعل أدمغتنا تعمل بطرق لم تكن موجودة لدى أجيال سابقة. في المقابل، تطور العلوم النفسية ساهم بشكل كبير في هذا الظهور. الأمراض التي لم يكن لها اسم أو تفسير في الماضي أصبحت تُفهم اليوم بشكل أعمق. ربما كان الشخص الذي يعاني من تبدد الشخصية يُعتبر "غريب الأطوار"، والشخص الذي يعاني من قلق دائم يُوصف بأنه "ضعيف الإيمان". الآن، أصبح لدينا مصطلحات تشخيصية وأدوات للقياس وفهم أعمق للسلوكيات التي قد تبدو غير مألوفة. لكن في ظل هذا الانتشار، يبرز خطر حقيقي: هل نحن نبالغ في تحليل كل شعور وكل سلوك؟ هل أصبحت حياتنا تُدار عبر قواميس نفسية تصف ما نشعر به وكأنه مرض دائم؟ الحقيقة قد تكون في منتصف الطريق. نحن بالتأكيد نعيش في عصر يفرض على الإنسان تحديات نفسية غير مسبوقة، لكن في الوقت نفسه، يبدو أننا نميل أحيانًا إلى تضخيم الأمور. المهم أن نتعامل مع هذه الاضطرابات بوعي. فهي ليست وهمًا، ولكنها أيضًا ليست بالضرورة حكمًا على كل شعور أو حالة بأنها "اضطراب". في النهاية، يمكننا القول إن الأمراض النفسية اليوم هي مرآة لما أصبح عليه الإنسان الحديث. إنها تعكس مخاوفه، وإيقاع حياته المتسارع، وحاجته المستمرة لإيجاد توازن بين ما يريده وبين ما يفرضه عليه هذا العصر المرهق. إيمان حكيم