هناك مقولة لجان كوكتو تحضرني كلما رحل مبدع؛ وأعزي نفسي بها «لا تبكوا هكذا بل تظاهروا بالبكاء، فالشعراء لا يموتون إنما يتظاهرون بالموت فقط»، فكيف يمكن لشاعر مبدع ورجل حمل الثقافة كرسالة إنسانية ونهج حياة أن يرحل من الذاكرة وإن اختاره قدر الله للحياة الأخرى! من أتكلم عنه هو الشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين، الذي أحبه السعوديون بعمق وأحبه شعراء العالم ومثقفوه الذين انتصر لهم، ولطالما كان قبطان الرحلة التي بدأت ولن تنتهي حتى بعد رحيله؛ فقد أكد أبناؤه وخلفه في رئاسة مؤسسته السيد سعود البابطين أن المشوار مستمر، وقد أعلن في حفل افتتاح الدورة التاسعة عشرة في الكويت بعد عام على رحيل والده أنه ضاعف جوائز الفائزين بجائزة البابطين، وهو تصريح للاستمرارية والذي هتف له معشر الشعراء والنقاد الحاضرين وباركوا هذه الالتفاتة، حيث إن مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية ستستمر كما بدأت شعلة يحملها المثقفون ويمضون بها ويفتخرون بمنجزها، ويحملون أوراقها كجواز سفر عالمي لا يحتاج إلى طوابع وتأشيرات عبور لتلك البلدان التي تزورها المؤسسة ضاربة فيها وتد خيمة الشعر وأنفاس الثقافة والنقد، مجددة عهد ذلك العربيّ الذي خط حكايته بأحرف من نور، حكاية المسافر في القفار الذي حمل معه بوح البوادي وأغنيات الفيافي ونثر حكاياته حيثما حلّ، الغائب الحاضر دائماً في أثره وفي ذكراه. لطالما آمن الشاعر عبدالعزيز البابطين بالعمل المجتمعي ومسؤولية رجال الأعمال تجاه المشهد الثقافي، وكان يردد دائماً أن الخليفة المأمون عندما أسس دار الحكمة أمر رجال الأعمال والأمراء والوزراء بأن يدخلوا الساحة الثقافية؛ فكانت له بصمته -رحمه الله- الخالدة، وترك مكانته التي لا تنسى في قلوب المثقفين الرحالة معه أينما توجه في مناسبة ثقافية تحت مظلة الشعر ومؤسسة البابطين. لقد كان عام 1989 كان علامة فارقة في حياة الشعراء العرب حين أطلق من القاهرة أعمال مؤسسة عبدالعزيز البابطين الثقافية، وتفرعت منها مراكز متعددة تعنى بالشعر والثقافة وحوار الحضارات، وكان في ركبها الشعراء والمبدعون الذين يشاركونه الهم الثقافي، ويعتبرون أن التنمية المعرفية ورأس المال الثقافي هما مفتاح المستقبل ونبراس الدروب المظلمة. من الشعراء السعوديين المشاركين الذين لوحت قصائدهم بنخلات الأحساء وتمرها الذي سرى في وتينهم كترياق الحياة وحبر القصيدة جاسم الصحيح ومحمد الجلواح أصدقاء المؤسسة الأوفياء، ثم شقراء المدخلية، أصدحوا بأمسيات زهت بشعراء عرب، منبرهم العالي لم يسكت حسّه الشعري رغم رحيل صاحب المكان والذي واكبته ندوات النقاد في ثنائية رائعة تؤكد أن النقد مواكب للإبداع والتي رأس إحداها الناقد السعودي د. معجب العدواني ود. منى المالكي. قبل يوم اللغة العربية بيومين كانت الكويت بوصلة أهل الكلمة والحرف البهي، وازدان الحاضرون بجمال الكلمة وبهاء لغتنا التي اعتبرت أيقونة خالدة يؤكدها المخلصون للإبداع العربي. هذه الفعاليات لها ثمار تؤتي أكلها بعد حين، وإن لقاء المثقفين على هامشها هي بذور سرعان ما تنبت من رحمها لتمتد فروعها في كل صوب، فهي مواعيد لقاء ومواسم حصاد وبهجة حياة. بأكف القلب نلوح للحاضر الراحل الشاعر الذي بقينا نأتمّ بناره حتى بعد رحيله عبدالعزيز بن سعود البابطين وتحية لأصدقائه الطيبين منهم د. عبدالعزيز السريع الذي دعاه الابن سعود لمسرح الأوبرا الكويتية يوم الافتتاح لمشاركته كلمة المؤسسة في لفتة وفاء لرفيق أبيه. ميسون أبو بكر